من سيكون الرابح في 2023؟
ذكرت وحدة الاستخبارات الاقتصادية، التابعة لمجلة "الإيكونومست" البريطانية، المخاطر الأساسية، التي ستنعكس آثارها على الاقتصاد العالمي في 2023، الذي سيشهد تأزما اقتصاديا كبيرا، بسبب المخاطر التراكمية، التي قد تجعل الأمر أكثر سوءا وتعقيدا، فإذا كان 2022 عاما صعبا عبر تاريخ الاقتصاد المعاصر، فإن البعض يصف العام الحالي بأنه سيكون الأصعب على اقتصادات الدول، وتحديدا تلك التي ترتفع نسبة ديونها بالدولار الأمريكي.
حسابات صندوق النقد الدولي توقعت انخفاض معدل النمو السنوي الحقيقي للاقتصاد العالمي إلى 2.7 في المائة في العام الحالي، بعد أن سجل 3.2 في المائة في 2022، مع تباطؤ عالمي على نطاق كبير، وتوسع حالات الانكماش، كما أدى انخفاض الإنتاجية الكلية إلى أدنى إنتاجية منذ سبعينيات القرن الماضي، -0.4 في المائة خلال الفترة 2020 - 2023، حيث يتراجع أداء المؤشر الرئيس المسؤول عن تعزيز فرص النمو والازدهار في المدى الزمني الطويل، ويؤثر عكسيا في عوامل النمو الأخرى.
ومن العوامل المشاركة في تأزم المشهد الاقتصادي، تباطؤ معدلات النمو في أغلبية الاقتصادات الكبرى، والارتفاع الحاد والأخذ بالتوسع في الديون المتراكمة وأعبائها، خاصة في الدول ذات الديون المقومة بالدولار، التي باتت أعلى تكلفة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، وكذلك تكاتف عوامل هيكلية عدة تغذي هذا التباطؤ، منها شيخوخة سكان العالم وتحديدا في الاقتصادات المتقدمة، وتراجع مستويات الإنتاجية، واتساع فجوة المواهب التي تكبل مؤسسات الأعمال لعدم تناسب مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل.
تتزايد ردة فعل المستثمرين ورواد الأعمال الذين يواجهون حالة غير مسبوقة من التعقيد وعدم اليقين والغموض بشأن الحاضر والمستقبل، واحتقان مواطنين تتآكل مدخراتهم وأجورهم الحقيقية، إضافة إلى تنامي أعداد الفقراء واتساع الفجوة بينهم والأغنياء، في الوقت الذي يواجه النظام الاقتصادي العالمي ضغوطا هائلة، ما يحد من آفاق نموه في المدى الزمني القريب، ويزيد من حالة عدم اليقين بشأن توقعات أدائه في المدى الزمني المتوسط، كما يواجه العالم خطر نقص المواهب البشرية، التي تؤثر حتما في أداء المؤسسات ومستويات الإنتاجية، إضافة إلى حزمة من المخاطر المتنوعة، التي قد تفتك في العالم.
حددت "دائرة الإيكونومست" أربعة مخاطر اقتصادية، تتمثل في تدهور العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي أو بين الصين والولايات المتحدة، وحدوث كساد عالمي ناتج عن تقييد السياسات النقدية، وحدوث موجة جديدة شديدة من متحور كوفيد- 19، إضافة إلى سياسة "صفر كوفيد" التي تتبناها الصين، فيما رصدت ثلاثة أخرى ذات طابع عسكري، تشمل تحول الحرب الروسية- الأوكرانية إلى صراع عالمي واسع، واندلاع صراع بين الصين وتايوان، وحدوث حرب سيبرانية عالمية.
المخاطر السياسية وتبعاتها مستمرة، ولم تغفل الدائرة الاستخباراتية للـ"إيكونومست" عن ذكرها، إذ لخصتها باحتمالية أن يحل شتاء قارس البرودة، يزيد من حدة أزمة الطاقة الأوروبية، لينتج عنها اضطرابات اجتماعية، بسبب ارتفاع معدلات التضخم حول العالم، أما المخاطر البيئية ليست ببعيدة عما يجري في العالم، والخطر يتضمن حدوث مجاعة نتيجة أحداث الطقس القاسي، والحرب الروسية - الأوكرانية.
كما أن هنالك مخاطر أخرى منظورة، منها حدوث اضطرابات تنظيمية، في ظل عدم القدرة على التنبؤ بالسياسات الحكومية، ومحاولاتها الاستجابة للأحوال الاقتصادية الصعبة، والأوضاع المالية العامة الأكثر هشاشة، ومن المتوقع أن تتجه حكومات بعض الدول إلى فرض مزيد من الضرائب أو القيود التجارية الحمائية لدعم مواردها المالية، ما يزيد من حالة عدم اليقين التي تطغى على بيئة الأعمال.
كما يواجه العالم خطر "نقص المواهب البشرية"، التي تؤثر حتما في أداء المؤسسات ومستويات الإنتاجية، ووفقا لدراسة صادرة حديثا عن مؤسسة "كورن فيري" الأمريكية، فإنه بحلول 2030 سيكون هناك نقص عالمي في المواهب البشرية لأكثر من 85 مليون شخص، ما يتسبب في فقدان نحو 8.5 تريليون دولار من الإيرادات السنوية غير المتحققة.
ويعاني الأفراد أيضا تقادما متناميا للمهارات، حيث يشير تقرير "مستقبل الوظائف"، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى أن 50 في المائة من الموظفين سيحتاجون إلى إعادة صقل مهاراتهم بحلول 2025، ولا نستغرب هنا أن ذلك يتطلب استثمارا لاستقطاب الموهوبين والحفاظ عليهم، وضمان تجدد مهاراتهم.
الذكريات الأولى لمشهد تأزم الاقتصاد العالمي كانت في 2019، أي قبل عام من تفاقم أزمة جائحة كوفيد- 19 التي بدأت في أوائل 2020، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في شباط (فبراير) 2022، وانتقال آثارهما العميقة في أرجاء العالم، إضافة إلى تنامي التوترات الجيوسياسية، واتساع تغيرات المناخ القاسية التي تكبد العالم خسائر بشرية ومادية جمة، والآثار الجانبية للإجراءات الحكومية المتبناة لمواجهة هذه الأزمات الكارثية، يصبح المشهد أكثر تعقيدا وتأزما.
المؤشرات لا تعني الوقائع ونتائجها، لذلك لن يركن العالم لتوقعات تباطؤه ويستسلم لها، فثمة فرص سانحة يمكن ترسيخها والبناء عليها، بإرادة ورغبة في طرق مسارات جديدة، والتعويل على الخبرة المكتسبة من التعاطي مع أزمات الأعوام الماضية، وتقييم مدى نجاعة تدخلات المواجهة في شتى المجالات.
ويعد تحسين مستوى الصمود الاقتصادي ركيزة أساسية لمقاومة الأزمات والتعافي السريع منها، والحد من آثارها، والاستفادة من فرصها، وقد يتطلب ذلك العمل على محاور عدة، منها وجود مزيد من التنويع للهيكل الاقتصادي، وتمكين القطاع الخاص، ومواجهة التغيرات المناخية، وتعزيز الأمن الغذائي، إضافة إلى إدماج مجتمعي فاعل في العمل الحكومي، مع التعاون الدولي والإقليمي، وتحسين معيشة المواطنين.
كما أن هناك آفاق رحبة لزيادة الإنتاجية، بتعزيز عمليات الابتكار الشامل "تحويل الابتكار إلى منتج أو خدمة نهائية"، والاستثمار في القطاعات الأعلى إنتاجية، وتحسين المنافسة في الأسواق، والارتقاء بقدرات القوى العاملة وإطلاق مواهبها، كما تبدو أهمية تحسين الملاءة المالية لحكومات الدول، لأن النمو الاقتصادي المستند إلى الدين يعد مسارا غير مستدام في المدى الزمني المتوسط والطويل.
ولمواجهة اضطرابات الطاقة والحد من التغير المناخي، يتعين تكثيف العمل على مستهدفات إزالة الكربون، ومصادر الطاقة المتجددة لتحقيق استقرار طويل المدى، وتوفير فرص استثمارية كبيرة وواعدة، عبر جيل جديد من الطاقة النووية والهيدروجين الأخضر وتطور تقنيات بطاريات التخزين، ما يترتب عليه زيادة في مستويات إنتاجية الطاقة.
في ظل كل ما تعانيه البشرية من اضطرابات جيوسياسية، وأزمات اقتصادية، وظواهر مناخية متطرفة، وأوبئة فتاكة، وغير ذلك من مخاطر، تحتاج شعوب العالم إلى استعادة الثقة بقدرة الحكومات والمؤسسات ومنشآت الأعمال على توفير البيئة الآمنة لهم، ومن سينجح في ذلك سيكون هو الرابح في 2023.