"التقاعد المقدس" .. عاصفة جديدة تهدد ماكرون

"التقاعد المقدس" .. عاصفة جديدة تهدد ماكرون
"التقاعد المقدس" .. عاصفة جديدة تهدد ماكرون

إذا كان المناخ الدافئ هذا الشتاء، قد أنقذ ماكرون من غضب الشارع على غلاء فواتير التدفئة والكهرباء، فلا مخلص له من السخط المتزايد، هذه الأيام في ربوع الجمهورية الفرنسية، على خطة الحكومة تعديل نظام التقاعد، التي كانت ثابتا من ثوابت الأجندة الانتخابية للرئيس خلال العام الماضي. وجدد التأكيد عليه في خطاب مناسبة العام الجديد، داعيا إلى اعتماد إصلاح يجعل النظام التقاعدي الفرنسي أكثر صلابة، مذكرا الفرنسيين "كما تعهدت أمامكم، هذا العام سيكون عام إصلاح نظام التقاعد لضمان توازنه خلال الأعوام المقبلة، وتعزيزه خاصة وأنه يعتمد على مبدأ توزيع الثروات".
رد الشارع على التذكير لم يتأخر كثيرا، بإضرابات ومظاهرات عارمة، وصفت بمليونية "الخميس الأسود" التي أربكت مختلف القطاعات الحيوية في فرنسا، إذ لأول مرة، منذ أزيد من عشرة أعوام، تتوحد جميع النقابات العمالية في جبهة مشتركة ضد مخطط الحكومة، الذي يقضي برفع سن التقاعد من 62 عاما إلى 64 عاما، بحلول 2030، وتسريع عملية رفع الحد الأدنى لعدد أعوام المساهمة في صندوق التأمين التقاعدي. ويتوقع أن يتجدد الأمر، وبقوة أكثر 31 يناير الجاري، ثاني موعد للإضراب، من قبل أكبر ثماني نقابات فرنسية، لإجبار ماكرون وحكومته على التراجع عن مشروع الإصلاح.
الحكومة: نهاية زمن "التقاعد المقدس"
وجد ثاني اقتصاد في منطقة اليورو نفسه مجبرا على مسايرة جيرانه، ممن اضطروا إلى رفع السن الرسمية للتقاعد، إذ وصلت 67 عاما في كل من إيطاليا وألمانيا، ورفعتها إسبانيا بدورها إلى 65 عاما، وبلغت السن المحددة في المملكة المتحدة 66 عاما. بذلك تتجه حكومة إليزابيت بورن نحو إنهاء امتياز فرنسي قديم، مفاده صغر سن المتقاعدين الفرنسيين، مقارنة بسكان الدول الأوروبية الأخرى. وهذا ما أكدته رئيسة الوزراء في كلمتها للدفاع عن المشروع "نقترح أن يواصل من يمكنهم ذلك العمل لفترة أطول.. هذا الخيار هو أيضا الخيار الذي اتخذه جميع جيراننا الأوروبيين".
يدافع ماكرون وأعضاء حكومته على ضرورة إنهاء التقاعد المبكر للفرنسيين، مقارنة بباقي الأوروبيين، فإصلاح أنظمة التقاعد ضرورة حتمية للحفاظ على الموارد المالية، وضمان عدم الإفلاس. فحسب أحدث تقرير لمجلس توجيه نظام التقاعد، كانت فرنسا تسجل 2,1 عامل لكل متقاعد، برسم 2000، قبل أن تنخفض هذه النسبة إلى 1,7 عامل في 2020. ويتوقع أن تسجل فرنسا 2070، نسبة 1,2 عامل فقط لكل متقاعد، اعتبارا للمؤشرات الديمغرافية التي تحدد متوسط العمر 90 عاما للنساء و87 عاما للرجال، ما يجعل تمديد أعوام العمل ضرورة وخيارا لا مفر منه.
تاريخيا، كان موضوع التقاعد مدار صراع سياسي قديم في فرنسا، فبداياته تعود إلى حكم الرئيس فرانسوا ميتران الذي قرر 1983، تخفيض سن التقاعد من 65 إلى 60 عاما. ما سبب عجزا في الموازنة بالنسبة للحكومات اللاحقة، ففكرة التشارك أي الأخذ من العاملين لتأمين رواتب المتقاعدين عن العمل، مهددة بضغط متزايد في مجتمع يشيخ، وتزداد فيه نسبة كبار السن مع زيادة في متوسط العمر.
حاول الرؤساء المتعاقبون على قصر الإليزيه إصلاح النظام، لكن مساعيهم باءت بالفشل، بما في ذلك رئيس من حجم وقامة الراحل جاك شيراك، ثم تكرر الأمر مع نيكولا ساركوزي، ومن بعده فرانسوا هولاند الذي تخلى عن مشروع إصلاح شمولي، واكتفى بإدخال ترقيعات في نظام التقاعد، تقضي على تحديد أعوام الاشتراكات المالية التي يدفعها من ولدوا بدءا من سبعينيات القرن الماضي إلى 43 عاما، بهدف الرفع من قيمة ما يتقاضون من معاشات.
تمسك الحكومة بخطة الإصلاح مردها ثمار قرار إضافة عامين، الانتقال من 60 إلى 62 عاما قبل أعوام، حيث أفادت نشرة مجلس توجيه نظام التقاعد لشهر سبتمبر الماضي، أنه على وشك استنفاد آثار تلك الزيادة، بتسجيل فائض مالي قدره 3,2 مليار عن 2021، قبل الانتقال لمرحلة تراجع سلبي بداية من العام الجاري. وانهيار حتمي لا يمكن وقفه إلا بزيادة عامين آخرين، فوفق تقديرات وزارة العمل، سيوفر ذلك مساهمة سنوية تقدر بنحو 17,7 مليار يورو، تسمح باستعادة النظام لتوازنه بحلول 2027.
العمال .. دفاعا عن التقاعد المبكر
الإجماع على وجود المشكلة، لا يضمن التوافق على الحل، فالعمال يعدون أن الحكومة اختارت الحائط القصير للإصلاح، حيث فضل مؤشر سن التقاعد عن خيارات أخرى من قبيل مستوى النفقات أو مراجعة طرق التمويل. وهذا ما تؤكده استطلاعات الرأي، إذ يرفض أربعة من أصل خمسة فرنسيين فكرة إجبار الأفراد على تأخير تقاعدهم. صحيح أن الجميع يسعى لإيجاد مخرج، لكن "يمكن حل هذه المشكلة بطريقة مختلفة، من خلال الضرائب. يجب ألا يضطر العمال لدفع عجز القطاع العام، كانت هذه كلمات لوران بيرجيه رئيس الكونفيدرالية الديمقراطية للعمل، أكبر تجمع نقابي في فرنسا.
توجه تدعمه آراء المختصين، ممن يعدون أن "العجز المالي لنظام التقاعد الفرنسي، لا يبرر رفع سن التقاعد، كما تخطط له الحكومة". تتعلق المسألة، من وجهة نظر الخبير ميكائيل زمور، أساسا بـ"خطاب سياسي يسعى إلى تضخيم مشكلة العجز المالي لإظهار أن هناك ضرورة ملحة لإصلاح نظام التقاعد، لكن في الحقيقة نسبة العجز المالي الحقيقي ستكون معتدلة للغاية". قبل أن يضيف الخبير بأن دوافع الإصلاح "لا تتعلق بتمويل نظام التقاعد أكثر مما هو اقتصاد النفقات لتمويل سياسة تخفيض الضرائب على الشركات".
يتخوف كثيرون من تداعيات هذا الإصلاح، فرفع سن التقاعد "لا يعني بالضرورة أن وضع جميع كبار السن سيتحسن، خاصة أولئك الذين يشكون من البطالة، بل سيزيد من هشاشة وضعهم الاجتماعي، وسيصبحون رهائن المساعدات الاجتماعية، التي تقدمها الدولة قبل الوصول إلى سن التقاعد". فإجبار الأفراد على العمل حتى 64 عاما يعني إنشاء مجموعة من كبار السن العاطلين عن العمل، لصعوبة حصول هذه الشريحة على مكانها في سوق الشغل، فهم في حكم المستبعدين فعليا.
حقيقة يؤكدها أكثر من استطلاع رأي، فأحدثها لموقع إنديد Indeed يفيد بأن 25 في المائة من المترشحين للوظائف، الذين تزيد أعمارهم على 55 عاما تم إخبارهم من أرباب العمل بأنهم أكبر سنا من أن يتأهلوا. فيما صرح أربعة من أصل عشرة من أصحاب المقاولات بامتناعهم عن تشغيل أي شخص تعدى سن الـ45 عاما. معطيات تزيد من إثبات التمييز، الذي تعرفه فرنسا ضد كبار السن في سوق الشغل، فقد سبق لتقرير صحيفة "الفاينانشيال تايمز" أن عد فرنسا بلدا فقيرا نسبيا في الحفاظ على كبار السن ضمن القوة العاملة، فنحو 1/2 من الفرنسيين، البالغين 62 عاما، فقط يستمرون في العمل.
هكذا، إذن تعيد خطة إصلاح التقاعد من خلال رفع سن التقاعد في فرنسا إلى الواجهة مسألة التمييز على أساس السن، الذي كان دوما محظورا، في بلد يسعى فيه الملايين من كبار السن بحثا عن العمل دون جدوى. ناهيك عن كون الإصلاح يهدد خصوصية فرنسية داخل القارة العجوز، ألا وهي الحق في التقاعد في سن معقولة التي لن يتوانى الفرنسيون في الحفاظ عليها.
لكل ذلك، يتوقع أن يواجه ماكرون موجة غضب شبيهة بحركة السترات الصفراء، التي أثارت الفوضى في شوارع باريس، بين عامي 2018 و2019، ثم تحولت إلى أعمال عنف أجبرت الرئيس على التراجع عن ضريبة الوقود الأخضر في فرنسا. ولا سيما أن ذاكرة كثير من المستهدفين بمقتضيات الإصلاح لا تزال تحتفظ بتفاصيل إفشال خطة آلان جوبيه 1995، على الرغم من إجازتها في البرلمان الفرنسي.
معطى يفتقده الرئيس ماكرون اليوم، فحكومة بورن تتمتع بأغلبية نسبية في الجمعية الوطنية، ويزيد إعلان اليسار واليمين المتطرف معارضتها للإصلاح تعميق عزلة الحكومة، التي تبقى مدعومة باليمين المحافظ، الذي يحاول مسك العصا من الوسط باقتراح تسوية محتملة. ويبقى التخوف الأكبر من اتساع دائرة الاحتجاج، لتشمل الأوضاع الاقتصادية الصعبة في فرنسا، التي بلغ فيها معدل التضخم 5.2 في المائة العام الماضي.

الأكثر قراءة