«الارتجال الموجه» .. شفافية وتشاور في صنع السياسات الصينية
عندما تولى الرئيس جو بايدن منصبه في 2021، كانت أول رسالة وجهها إلى باقي دول العالم هي عبارة، "لقد عادت أمريكا". ويبدو أن الرئيس شي جين بينج يوجه رسالة مماثلة، بعد حصوله على ولاية ثالثة في منصبه كأمين عام للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول (أكتوبر). وفقا لتقرير يوين آنج، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة جونز هوبكنز، ومؤلف كتاب "كيف نجت الصين من مصيدة الفقر" مطبعة جامعة كورنيل، 2016، "والعصر الذهبي الصيني" مطبعة جامعة كامبريدج، 2020.
فعلى مدار الشهرين الماضيين، أعلنت القيادة الصينية سلسلة من التحولات السياسية الرئيسة، حيث أنهت بصورة مفاجئة ما يقرب من ثلاثة أعوام من القيود الصارمة التي تدخل في إطار سياسة "صفر كوفيد"، وخففت من حدة الإجراءات القاسية ضد شركات التكنولوجيا والقطاع العقاري، ومن خلال ذلك فهي تؤكد التزامها بالنمو الاقتصادي، وتمد غصن الزيتون إلى الولايات المتحدة في مجموعة العشرين G20. وبدأ المستثمرون يتفاعلون بحماس مع إعادة فتح ثاني أكبر اقتصاد في العالم أبوابه أمام الأعمال.
لكن رغم أنه لا شك في أن تحول الصين إلى دولة مؤيدة للأعمال خطوة تبشر بالخير فيما يتعلق بالتجارة الدولية والسلام والاستقرار العالميين، إلا أن وضع الاقتصاد الصيني على المسار الصحيح سيتطلب أكثر من مجرد عكس السياسات الأخيرة. إن ما نحتاج إليه حقا هو إعادة البراجماتية وردود الفعل الصادقة إلى النظام السياسي. وكما أوضحت في كتابي- يضيف آنج-How China Escaped the Poverty Trap، فقد حددت هذه السمات أسلوب الإدارة التكيفي الذي اشتهرت به الصين خلال عهد دينج شياو بينج.
وهناك تصور خاطئ شائع بأن "نموذج الصين" يعني سيطرة من أعلى إلى أدنى من قبل حكومة استبدادية قوية، محاطة بمؤسسات الدولة القوية. والواقع أن 30 عاما من الفقر والمعاناة خلال حكم ماو تسي تونج أثبتت أن الجمع بين التخطيط من أعلى إلى أدنى وملكية الدولة والقمع السياسي سياسة تفضي إلى الفشل. ولهذا السبب قدم دينج بهدوء نظاما هجينا أسميه "الارتجال الموجه". وظل الحزب الشيوعي الصيني في السلطة بقوة، لكن الحكومة المركزية فوضت السلطة لعديد من السلطات المحلية في جميع أنحاء الصين، وفي الوقت نفسه، حرر رواد الأعمال في القطاع الخاص من ضوابط الدولة.
وحددت حكومة "بكين"، التي اضطلعت بدور المدير بدلا من الديكتاتور، الأهداف الوطنية ووضعت الحوافز والقواعد المناسبة، بينما ابتكرت السلطات ذات المستوى الأدنى والجهات الفاعلة في القطاع الخاص حلولا محلية لمشكلات محلية. ومن الناحية العملية، ظهرت مجموعة متنوعة من "النماذج الصينية" المحلية، تقدم ابتكارات تحويلية من القاعدة إلى القمة، في الأغلب بطرق فاجأت السلطات المركزية. ومن الأمثلة على ذلك صعود الاقتصاد الرقمي.
ولأن الأفكار يجب أن تسبق العمل، فقد تأكد دينج من أنه قام أولا بتغيير عقلية الحزب الشيوعي الصيني وقواعده. ففي خطاب تاريخي ألقاه في كانون الأول (ديسمبر) 1978، الذي أعلن فيه بداية عصر "الإصلاح والانفتاح" في الصين، جعل من "تحرير العقل" أولوية قصوى للحزب. وفي عهد ماو، لم يجرؤ الناس على قول الحقيقة، خوفا من معاقبتهم بشدة، ما أوجد مناخا سياسيا مخيفا، أدى إلى ظهور سياسات كارثية مثل الوثبة الكبرى للأمام. لكن خلال حكم دينج، كانت الضرورة الجديدة تتمثل في "البحث عن الحقيقة انطلاقا من الحقائق". وكان يختار السياسات لأنها تحسن من مستوى رفاهية الناس، وليس لأنها صحيحة سياسيا.
وتجاهل كل من صقور الصين الغربية وشي نفسه نظام دينج الهجين- الاتجاه من أعلى إلى أدنى إلى جانب الحكم الذاتي من أسفل إلى أعلى. وعندما تولى شي السلطة، فضل قصة مختلفة بشأن نجاح الصين، واحتفل بـ"الميزة المؤسسية" التي يفترض أن يتميز بها نظام القيادة من أعلى إلى أدنى عن الرأسمالية الديمقراطية الغربية.
ومن المؤكد أن النهج من أعلى إلى أدنى أسفر عن نتائج رائعة أثناء المراحل الأولى لظهور كوفيد - 19. فمن خلال إجراء اختبارات واسعة النطاق، والاحتواء الصارم للفيروس، والتدابير الأخرى التي لا يمكن الحفاظ عليها إلا في ظل حكومة استبدادية قوية، سجلت الصين صفر حالة تقريبا من الإصابات والوفيات من 2020 حتى 2022. وتبنى شي سياسة "صفر كوفيد" كأحد إنجازاته المميزة، وأعلن أخيرا خلال المؤتمر الوطني في أكتوبر أن الصين ستتمسك بسياستها "دون تردد".
لكن بعد ذلك اتخذت الأحداث منعطفا سريعا وغير متوقع. ومن شدة الغضب إزاء عمليات الإغلاق التي لا نهاية لها، تدفق المواطنون الصينيون من مختلف مناحي الحياة إلى الشوارع ليحتجوا، ما أجبر شي على تغيير موقفه. لكن الانعكاس المفاجئ لسياسة "صفر كوفيد" أدى إلى زيادة هائلة في عدد الحالات والاستشفاء التي ستستمر في الصين لبعض الوقت.
ويتوق شي وفريقه إلى نسيان الوباء واستعادة ثقة الأعمال. فقد أدى التخفيف من القوانين التنظيمية للاقتصاد، وإنهاء الضوابط الوبائية إلى انتعاش أسواق رأس المال بالفعل. وفضلا عن ذلك، بعد ذروة الإصابات بكوفيد - 19، من المرجح أن يعود الاستهلاك المحلي بقوة، "قفزت حجوزات الرحلات عدة مرات بالفعل بعد إعفاء المسافرين من الشروط المتعلقة بالحجر الصحي"، وسيعود قطاع التصنيع والخدمات اللوجستية إلى طبيعتهما. وتعهدت الحكومة المركزية بإنفاق إضافي على البنية التحتية من أجل تعزيز النمو.
لكن لكي تؤتي الأرضية الاقتصادية الجديدة ثمارها على المدى الطويل، يتعين على شي إعادة فتح قنوات ردود الفعل للنظام السياسي. وهذا يعني أن يكون مثالا يحتذى به وأن يوضح للمسؤولين الحزبيين أنه يريدهم حقا أن يبلغوا الحقائق الموجودة على أرض الواقع. ولن يحدث هذا في الممارسة العملية، إذا أسكت رواة الحقيقة وشجع مروجو الدعاية.
وينبغي للحكومة أيضا أن تمنح المجتمع المدني ووسائل الإعلام مساحة أكبر. إن التفكير في أن سحق حرية التعبير سيعزز قبضة الحزب الشيوعي الصيني على السلطة تفكير قصير النظر، وسيأتي بنتائج معاكسة في النهاية. ودون نظام منظم لردود الأفعال تجاه السياسات ستعاني الإدارة، ما سيؤدي إلى الاحتجاجات الجماهيرية كتلك التي انفجرت في تشرين الثاني (نوفمبر)، وأدت إلى تراجع شرعية الحزب الشيوعي الصيني القائمة على الأداء.
وهناك مشكلة أخرى في النهج من أعلى إلى أدنى الذي يعتمده شي، وهي أنه سيجعل المستثمرين يتساءلون متى يمكن للصين أن تتحول مرة أخرى؟ إذ على مدى العقد الماضي، أعلن شي مرارا وتكرارا أنه سيتفرغ للقيام بـ"الإصلاحات"، فتمكين مسؤولين بسجلات حافلة بالبراجماتية والصراحة من شأنه أن يسهم مساهمة كبيرة في طمأنة الأسواق. إن تغيير معايير النظام السياسي فيما يتعلق بالتوظيف والترقية سيكون أهم من مجرد الشعارات.
أخيرا، يجب أن تدرك القيادة الصينية أنها لم تخطئ الهدف المتمثل في معالجة مشكلات "العصر الذهبي" في البلاد، مثل كبح الاستثمار المضارب في العقارات وحماية حقوق عمال التوصيل في التجارة الإلكترونية. لقد جاءت السياسات السابقة بنتائج عكسية لأنها نفذت تنفيذا تعسفيا، ما ترك الشركات متوترة من أن الحزب قد يغيرها في أي وقت. ويجب أن يمارس شي ودائرته الشفافية والتشاور في صنع السياسات، بدلا من مجرد التخلي عن السعي إلى تحقيق التنمية الشاملة.
لقد تراكمت لدى الصين خبرة واسعة في الإدارة التكيفية بين أواخر سبعينيات القرن الـ20 وأوائل العقد الأول من القرن الـ21. لكن بحلول الوقت الذي تولى فيه شي السلطة في 2012، كان نموذج دينج الاقتصادي قد بلغ حده الأقصى وبدأ في إنتاج مستويات غير مستدامة من الفساد، وعدم المساواة، ومخاطر الديون، والتلوث البيئي. ومع ذلك، لا يمكن أبدا أن يكون الحل هو العودة إلى عهد ماو. والأحرى بالصين أن تدخل "الارتجال الموجه" في القرن الـ21.