الاستلقاء .. ثورة صامتة تهدد تقدم الصين

الاستلقاء .. ثورة صامتة تهدد تقدم الصين
الاستلقاء .. ثورة صامتة تهدد تقدم الصين

أفادت بيانات رسمية صينية، الأسبوع الماضي، بتسجيل الصين العام المنصرم تراجعا في عدد السكان، لأول مرة منذ 60 عاما، فقد انخفض إجمالي سكان الدولة عام 2022 بنسبة بلغت 0,85 في المائة، مقارنة بعام 2021. نسبة تعادل بلغة الأرقام زهاء 850 ألف نسمة، بناء على معطيات مكتب الإحصاء الحكومي التي تفيد بأن الصين شهدت 9,56 مليون ولادة نظير 10,41 مليون وفاة.
تراجع يعيد ذاكرة الصينيين إلى عام 1960، حين عرفت البلاد آخر انخفاض في عدد السكان، مع فارق كبير في الأسباب، فالأول كان بسبب المجاعة الكبرى التي تعد أسوأ مجاعة في التاريخ الحديث، أما الثاني الذي يعد بمنزلة تحول تاريخي في الصين، فمرتبط بسياسة "الطفل الواحد" التي فرضتها الصين، بين عامي 1980 و2015، لكونه يعوق النمو الاقتصادي، ويراكم الضغوط والتكاليف على الخزينة العامة للدولة.
يذكر أن الصين، منذ 2016، خففت من سياسة الطفل الواحد، فسمحت بإنجاب طفلين، ورفعت الرقم إلى ثلاثة أطفال للأسرة عام 2021، كل ذلك أملا في تدارك التراجع الحاد في معدل المواليد، وضمان الحفاظ على سلامة نظام المعاشات، علاوة على وفرة اليد العاملة الرخيصة، الأساس المتين للاقتصاد الصيني الذي دخل مرحلة تراجع مطرد، منذ 2010، إذ انخفض إجمالي الناتج المحلي من 10,6 في المائة إلى 6 في المائة قبل جائحة كورونا.
أماني الحكومة الصينية تعاكسها شريحة من المجتمع، اختارت الانتظام في حركة المستلقين "تانج بينج"، التي تقود ثورة صامتة، في صفوف شباب الصين، منذ أواسط عام 2021، بدعوتهم إلى رفض ثقافة العمل الزائد التي تجبرهم على الاشتغال لساعات أطول بأجور زهيدة. مستغلة تنامي مشاعر الإحباط وموجة السخط من تدني رواتب وظائفهم، وعجزها عن مواجهة الارتفاع المهول في الأسعار.
تقوم الفكرة على قاعدة "الامتناع"، فأنصار التكاسل أو "تانج بينج"، وتعني باللغة المحلية "أخذ استراحة من العمل الشاق"، لا يدعون إلى التظاهر أو التمرد أو غيرهما من صيغ الفعل الإيجابي، بل على النقيض من ذلك، يطالبون -بكل بساطة- بالإحجام والإمساك عن المساهمة في الدورة الاقتصادية، بالتوقف عن العمل، فالنضال من أجل المستقبل بالعمل الجاد من أجل امتلاك منزل أو إنشاء أسرة أو الترقي الاجتماعي، الذي حرك الأجيال السابقة غير مؤثر في جيل التسعينيات وما بعدها، ممن يرفع شعار "الاستلقاء على الأرض هو العدل".
قرأ مراقبون حراك الاستلقاء باعتباره أسلوب حياة ونمط عيش، أكثر من كونه نضالا سياسيا ضد النظام الحاكم في بكين، فحملة قمصان "لا تفعل شيئا أيها الشاب، استلق" موجة شبابية تمتح من معين الفلسفة اليونانية القديمة، وتتقاسم تجارب عيش الكفاف، بمبلغ لا يتعدى 200 يوان شهريا "31 دولارا". يسرد أحدهم تجربته قائلا "يمكنني النوم في برميل، والاستمتاع بحمام شمس مثل الفيلسوف اليوناني ديوجانس، أو العيش في كهف مثل هرقليطيس، والتفكير في الشعارات. وبما أنه لم يكن هناك في الواقع اتجاه فكري يمجد الذاتية البشرية في هذه الأرض، يمكنني أن أوجدها لنفسي. الاستلقاء هو حركة الرجل الحكيم".
جذور الفكرة يونانية، لكن القالب صيني أصيل، فالصورة رمز الاحتجاج، لرجل مستلق على أريكة غير مبال بمن حوله، مستوحاة من التراث الفني الصيني. وبالتحديد من السلسلة الكوميدية "أنا أحب عائلتي" التي لا يفعل فيها الممثل شيئا سوى الاستلقاء على الأريكة، وتناول الطعام. أعاد الناشطون هذه الشخصية إلى الواجهة للتعبير عن حالة اللامبالاة والإحباط التي أصابتهم من سوء ظروفهم المعيشية، سواء ما يتعلق بتجاهل الحكومة مشكلاتهم، أو تذمرهم من إيقاع ونمط الحياة الصناعية.
تحول الممثل إلى "بطل" ونموذج في نظر أنصار حراك الاستلقاء، لكونه يعبر عن جيل فقد شغف العمل ولذة الحياة. وذهبت آراء إلى إضفاء الطابع الروحاني على الحركة، حتى تضمن الانفلات من مضايقات الحكومة الصينية. ففلسفة "تانج بينج" تقوم على عدم الإفراط في العمل، بالرضا والقبول بما يمكن تحقيقه من إنجازات، وإتاحة الوقت بدلا من ذلك للاسترخاء. عن ذلك يتحدث أحدهم قائلا "سأكون قادرا على الاستمرار في القيام بممارسة جميع هواياتي التي اكتشفتها خلال فترة الاسترخاء والتكاسل، التزلج وتسلق الصخور، فلدي الآن الوقت لأفعل ما أحبه، إنني راض جدا الآن".
أيا كانت مساعي التنقيص من حركة يخبو ويتوهج صداها، لما يقارب عامين داخل الصين، يبقى المؤكد أنها أداة احتجاجية على حزمة من تحولات داخلية في الدولة، زادت حجم الهوة والفجوة بين الأغنياء والفقراء، جراء التناقض ما بين مبادئ الرأسمالية المعمول بها في الاقتصاد، وقيم الاشتراكية التي ينادي بها الحزب الشيوعي. بذلك تكون ظاهرة الاستلقاء صرخة ضد ثقافة "996"، أي العمل من 9 صباحا حتى 9 مساء، لمدة ستة أيام في الأسبوع، ما يؤدي إلى ظاهرة الوفاة بسبب إجهاد العمل.
الظاهرة في جوهرها موقف سياسي واضح مهما حاولت القراءات تبخيس دلالاتها، ففيها رفض لكيفية تطور الاقتصاد والمجتمع الصينيين، بعدما أدرك هؤلاء الشباب أن الفرص والإمكانات ومستويات العيش التي أتيحت لأجدادهم وآبائهم غير متاحة لهم، ما يشكل تهديدا للعقد الاجتماعي الذي يضمن تماسك الصين، فالفتور في أوساط الشباب يعني فقدان الحيوية الاقتصادية، ما يؤثر سلبا في معدلات النمو. وفي المحصلة، يضع "الحلم الصيني" بتعزيز النفوذ على مستوى العالم، والذي يتطلب إنجازه، وفق الرئيس شي جين بينج، العمل بإخلاص وتفان تجاه الأمة، في مهب الريح.
سبق لدول أن شهدت حركات مماثلة، فاشتهرت اليابان مثلا بجيل التقوقع نيتس "الهيكيكوموري" أوائل هذه الألفية، وهم شباب ممتنعون عن مظاهر الحياة النشيطة من تعليم أو تدريب، مفضلون البقاء في منازلهم، والاعتماد على آبائهم في تلبية حاجياتهم الأساسية. وشهدت معظم الدول الغربية في حقبة الستينيات حركة "الهيبيز". لكن اختلاف السياقات يرفع من مخاطر حراك المستقلين، ولا سميا أنه يأتي في ظل تباطؤ الاقتصاد المحلي الناجم عن الإغلاق نتيجة جائحة كورونا، واستمرار التوترات التجارية مع الولايات المتحدة، علاوة على مخاطر ركود اقتصادي ناجم عن تضخم عالمي، جراء الحرب الأوكرانية.

الأكثر قراءة