العولمة .. موجة جديدة متعددة الأيديولوجيات

العولمة .. موجة جديدة متعددة الأيديولوجيات

هل سنشهد إعادة إحياء العولمة؟ كان هذا هو السؤال الأهم الذي طرح في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، حيث تساءل كلاوس شواب مؤسس المنتدى، عما إذا كان من الممكن التعاون في عصر الانقسام؟
على مدى العقد الماضي، كان الزوال المستمر لعبارة "رجل دافوس" -الصورة الرمزية للأعمال التجارية العالمية- هو القضية المهمة، بسبب الأزمة المالية لعام 2008، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترمب، والتراجع الديمقراطي في جميع أنحاء العالم، واندلاع جائحة فيروس كوفيد - 19، وحرب روسيا في أوكرانيا. تم اعتبار جميع هذه الأزمات دلائل على أن العولمة قد ذهبت أبعد مما ينبغي، وأنها ستتجه نحو المسار المعاكس. يكتب مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مؤلف كتاب "عصر عدم السلام: كيف يتسبب الاتصال في الصراع" (مطبعة بانتام، 2021): ومع ذلك، كان التفاؤل يسود الأجواء في اجتماع هذا العام. وعلى الرغم من القلق الشديد بشأن الحرب والصراعات الاقتصادية، يبدو أن العالم أصبح أفضل حالا مما توقعته النخب العالمية عندما اجتمعت آخر مرة في أيار (مايو) الماضي. فقد نجح الأوكرانيون في مقاومة الروس بشجاعة، وأصبح الغرب موحدا، وقد تمكنت أوروبا من الحفاظ على الطاقة طوال فصل الشتاء، ويعتقد البعض أننا قد ننجح في تجنب الركود.
فضلا عن ذلك، خلف هذه التطورات المهمة قصيرة المدى سنجد تحولا أكثر عمقا نحو شكل جديد من أشكال العولمة، وإن كان شكلا مختلفا تماما عما سبقه. وفي حين يبدو أن العولمة الاقتصادية بلغت ذروتها، فقد أصبح تبادل الخدمات أكثر سرعة من أي وقت مضى، بسبب ثورة العمل عن بعد التي اندلعت أثناء الجائحة.
كما نشهد ثورة متصاعدة في مجال الطاقة، مدفوعة جزئيا بالحرب في أوكرانيا. وتتوقع أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، والمستشار الألماني أولاف شولتس، أن يحظى الاعتماد واسع النطاق لمصادر الطاقة المتجددة والطاقة الهيدروجينية بأهمية الثورة الصناعية في القرن الـ19 نفسها. وفي الوقت نفسه، يتيح التقدم في الذكاء الاصطناعي إمكانات جديدة هائلة، في حين توجد أيضا توترات حول الرقائق الإلكترونية الدقيقة والمخاوف المتجددة بشأن البطالة والروبوتات.
وستعمل التطورات في جميع المجالات الثلاثة -العمل عن بعد ومصادر الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي- على ربط الدول ببعضها بعضا في شبكات جديدة من الاعتماد المتبادل. وكما يظهر تقرير حديث صادر عن معهد ماكينزي العالمي، "ليست هناك منطقة قريبة من تحقيق الاكتفاء الذاتي".
مع ذلك، قد تكون نسخة العولمة الجديدة التي حظيت بأهمية في منتدى دافوس مختلفة اختلافا جذريا عن التكرارات السابقة. أولا، بينما كان النموذج القديم يدور حول أرباح الشركات، فإن النموذج الجديد يتعلق بالأمن القومي بكل أبعاده. فقد ادعت الدول الغربية الحرب في أوكرانيا باعتبارها دفاعا عن النظام الليبرالي القائم على القواعد ضد العدوان أحادي الجانب من قبل روسيا "وبالتالي الصين". لذلك تنشغل هذه الدول بالانفصال عن روسيا، وإعادة النظر في علاقاتها الاقتصادية مع الصين. وفي منتدى دافوس، كانت كريستيا فريلاند وزيرة المالية الكندية، واحدة من بين عديد من صناع السياسات الذين شددوا على الحاجة إلى "دعم الأصدقاء".
وبالنسبة إلى عديد من الدول خارج الغرب، يتحمل كل من أوروبا وأمريكا المسؤولية عن تعطيل النظام العالمي مثل روسيا والصين، ومع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة تهدد أمنهما وازدهارهما، فهما تعتقدان أن الغرب اتخذ قرارا بتحويل الحرب إلى صراع اقتصادي "من خلال حزمة العقوبات الأكثر طموحا وتشددا في التاريخ"، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على ملايين من البشر.
وبالعودة إلى أعوام منتدى دافوس الذهبية، كان النظام المالي القائم على الدولار يعد منفعة عامة عالمية قادرة على نشر الرخاء في كل ركن من أركان العالم. لكن اليوم ينظر إليه بشكل متزايد باعتباره أداة قوية يمكن لأمريكا من خلالها فرض تفضيلاتها الأيديولوجية والاستراتيجية. تتبع العقوبات المفروضة على روسيا النمط نفسه من السياسات الغربية المستخدمة لملاحقة "الحرب ضد الإرهاب" ومكافحة انتشار الأسلحة النووية.
وكما حدث مع بنك بي إن بي باريبا BNP Paribas الفرنسي في عام 2014، عندما تم تغريمه أكثر من ثمانية مليارات دولار لانتهاكه العقوبات الأمريكية، فقد أصبحت هذه السياسات بمنزلة مصيدة عالمية تعتمد فاعليتها على التسييس الصريح للأنظمة العالمية التي كانت تعد محايدة في السابق "من حيث المبدأ إن لم يكن في الواقع".
الآن وقد تم السماح باتخاذ تدابير مماثلة، بدأ آخرون أيضا تسييس الإطار العالمي للقواعد والمعايير. على سبيل المثال، ينظر الاتحاد الأوروبي إلى فرض تعريفة كربونية جديدة على الواردات، وقد اتخذ بالفعل تدابير لمنع تخزين البيانات المتعلقة بمواطنيه خارج حدوده.
من جانبها، ضاعفت الولايات المتحدة جهودها من خلال فرض حظر شامل على بيع التقنيات المهمة استراتيجيا للصين. والنتيجة ليست مجرد تقسيم المعرفة. واليوم، تبذل جميع الدول جهودا أكبر للحماية ضد مخاطر الاعتماد المتبادل.
ثمة اتجاه آخر من شأنه أن يميز العصر المقبل للعولمة، وقد يكون أكثر أهمية. في حين كانت بريطانيا وأمريكا على التوالي في مركز الموجتين الأوليين للعولمة، فإن هذه الموجة الجديدة ستكون متعددة الأقطاب، وبالتالي متعددة الأيديولوجيات. لم تقم الصين بسد الفجوة الاقتصادية مع أمريكا فحسب، بل تجاوزتها باعتبارها أكبر شريك تجاري لمعظم دول العالم. وهذا يعني ضمنا حدوث تحول كبير في ميزان القوى الاقتصادية.
تشير هذه الديناميكية الجديدة إلى أن العالم سينقسم ليس فقط بسبب القومية، لكن بفعل أفكار مختلفة جذريا حول النظام. حصل الحاضرون في دافوس على تصوير واضح لهذه الحقيقة عندما حضر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لإلقاء خطاب يدعو فيه العالم إلى حشد الجهود ضد الحرب الروسية غير المبررة. وبينما هتف نصف الحضور بحماس، بدا النصف الآخر غير متأثر. حتى لو تعاطف كثيرون مع الأوكرانيين، فإنهم يخشون أن يتم استخدام الصراع لإحداث حرب باردة ثانية، التي ستؤدي إلى تقسيم العالم إلى ديمقراطيات وأنظمة استبدادية.
هذا هو آخر شيء يريده معظم القادة السياسيين. وفي مناقشات خاصة، يشكو قادة إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية من أن دولهم عانت بالفعل فقدان السيادة والسيطرة خلال الحرب الباردة الأولى. بالنسبة إليهم، هناك قليل مما يمكن كسبه من الاضطرار إلى الانحياز مرة أخرى.
حتى حلفاء أمريكا يعارضون الاضطرار إلى الاختيار. ويشعرون بقلق بالغ إزاء السياسة الخارجية الحالية للصين، لكنهم أيضا يعارضون بشدة سياسة الانفصال. وفي خطابه الخاص أمام المؤتمر، أعلن شولتس أن عالم عام 2045 لن يكون ثنائي القطب، بل متعدد الأقطاب.
في نهاية المطاف، قد يكون شواب محقا في الأمل في التعاون في عصر التفكك الذي نشهده. ومع ذلك، يتعين علينا أن نضع في حسباننا كيف قد تختلف العولمة القادمة اختلافا جوهريا عن العولمة السابقة.

الأكثر قراءة