ميانمار .. قهر يمر دون أن يلاحظه أحد
تتخذ النزاعات داخل الدول وفيما بينها أشكالا عديدة، لكنها تدور دوما حول السلطة. يصدق هذا على الانقلاب العسكري الوحشي الذي أطاح بحكومة ميانمار المنتخبة قبل عامين، كما يصدق على الحروب الأخرى. لكن في حين هيمنت محنة أوكرانيا على عناوين الأخبار العالمية واجتذبت مليارات الدولارات من المعدات العسكرية وغير ذلك من المساعدات، فإن قهر ميانمار من الداخل مـر دون أن يلاحظه أحد في الخارج إلى حد كبير، ولم تتلق المعارضة المدنية سوى القليل من الدعم.
ثيتينان بوسوندراك أستاذ في كلية العلوم السياسية في جامعة شولالونجكورن وزميل أول في معهد الأمن والدراسات الدولية التابع لها يؤكد في تقريره أن جنوب شرق آسيا منطقة مـيـالة إلى الانقلابات. فقد قاسـت كمبوديا وإندونيسيا والفلبين من "عصور الانقلابات" قبل أن تستقر على مسارات شبه ديمقراطية، وإن كانت بخصائص استبدادية. تحملت تايلاند محاولتين انقلابيتين منذ 2006، ولم تتمكن حتى الآن من التوصل إلى صفقة سياسية كفيلة بكسر القبضة العسكرية والملكية المشتركة على السلطة.
بيد أن ميانمار تتصدر القائمة. فقد استولى جنرالاتها على السلطة في 1962. وعلى الرغم من أن الحكم العسكري المباشر أفسح المجال في النهاية لدكتاتورية دستورية، فلم يـحـل المجلس العسكري رسميا ولم تـشـكـل حكومة مدنية اسميا حتى 2011. لكن حتى في ذلك الوقت، احتفظت المؤسسة العسكرية بقيادة الجنرال ثين سين بمفاصل السلطة الرئيسة.
خلال العقد التالي، شهدت ميانمار التحرير السياسي، والإصلاح الاقتصادي، والتقدم الحقيقي في مجال التنمية. مع تدفق الاستثمار الأجنبي، وازدهار الأعمال، وإقامة السفارات، بدت ميانمار حريصة على نحو متزايد على ترك الحكم العسكري في الماضي حيث ينتمي. وساعدت دورتان انتخابيتان متتاليتان ـ في 2015، ثم في 2020 ـ على تعزيز السلطة المدنية، حيث نجحت الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية بقيادة أونج سان سون كي في تأمين انتصارات ساحقة على حزب الاتحاد للتضامن والتنمية التابع للمؤسسة العسكرية.
بعد معاناة دامت عشرات الأعوام من الدكتاتورية واليأس، رأي مجتمع ميانمار المتنوع عـرقيا ـ خاصة فئة الشباب ـ بصيصا من الأمل في مستقبل أكثر ازدهارا وديمقراطية. لكن آمالهم تبددت في شباط (فبراير) 2021 ـ بعد أقل من ثلاثة أشهر من آخر انتخابات عقدت في البلاد ـ عندما قام القائد الأعلى للقوات المسلحة مين أونج هلينج بتدبير انقلاب جديد.
ولكن هذه المرة لم يخضع شعب ميانمار. بعد الانقلاب مباشرة، خرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع للاحتجاج على استيلاء المؤسسة العسكرية على السلطة. بمرور الأشهر، حـجـب المجلس العسكري الإنترنت، وأعلن الأحكام العرفية، وأطلق حملة أمنية قمعية عنيفة، بحسب التقارير قتل النظام ما يقرب من 3000 مدني واعتقل نحو 17 ألفا. لكن الشعب استمر في المقاومة.
في غضون أيام من الانقلاب، وحـد المتظاهرون قواهم مع لجنة تمثل أعضاء البرلمان من الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية الذين انـتـخـبوا في الانتخابات السابقة. وأفضى هذا إلى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في نيسان (أبريل)، التي ضمت أعضاء الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، وأحزابا أخرى، ومستقلين. بعملها بالترادف مع المجلس الاستشاري للوحدة الوطنية، تروج حكومة الوحدة الوطنية لرؤية تتمثل في حكومة شاملة بقيادة مدنية تخدم أغلبية بامار والأقليات العرقية على حد سواء.
في الوقت ذاته، بدأت المنظمات المسلحة الـعـرقية في ميانمار، خاصة منظمة كارينز Karens بالقرب من الحدود مع تايلاند ومنظمة كاتشينز Kachins في الشمال، تلاحق عمليات قتالية صريحة ضد المؤسسة العسكرية المتمرسة على القتال. ثم في أيار (مايو)، تـشـكـل الجناح المسلح لحكومة الوحدة الوطنية، أو قوة الدفاع الشعبية ـ وهذا استعراض رائع للتحدي من قـبـل شباب ميانمار، الذين يشكلون أغلبية الميليشيات المحلية التي تتألف منها قوة الدفاع الشعبية. في رفضهم التخلي عن الحرية التي حـرم منها أسلافهم، حملوا أسلحة بدائية، وفي الأغلب منزلية الصنع، وبدأوا القتال بالتعاون مع المنظمات المسلحة الـعـرقية.
على الرغم من غياب أي هيكل قيادي مركزي أو دعم دولي، أصبحت ميليشيات قوة الدفاع الشعبية المتنافرة منسقة وماهرة على نحو متزايد في استخدام تكتيكات حرب العصابات، وبدأت تنفذ عمليات اغتيال موجهة. ونظرا للتأييد الواسع الانتشار لقضيتهم، فإن صفوفهم آخذة في الازدياد والنمو.
لا تزال المؤسسة العسكرية في ميانمار تتمتع بميزة الدروع، والمدفعية، والقوة الجوية. لكن المقاومة الحازمة التي شنها شعب ميانمار منعت المجلس العسكري من اكتساب السلطة الكاملة على البلاد، التي يسيطر على نصفها تقريبا الآن تحالف المعارضة. وعلى الرغم من أن المؤسسة العسكرية قادرة على توليد القدر الكافي من الأموال النقدية لدعم حكمها الـمـرقـع عن طريق بيع الموارد الطبيعية، فقد اقتربت الحرب الأهلية في ميانمار من حالة من التوقف والجمود.
حتى الآن، لم يفعل المجتمع الدولي كثيرا لمساعدة شعب ميانمار، حتى في حين يتحملون أزمة إنسانية طاحنة تذكرنا بأحلك أيام الدكتاتورية. صحيح أن عقوبات فـرضـت وإدانات صدرت، لكن الصين تدعم المجلس العسكري، الذي تزوده روسيا بالسلاح. وحتى رابطة دول جنوب شرق آسيا ـ التي تضم ميانمار ـ كانت غير فـعـالة ولم تفعل شيئا يـذكـر لجلب الحوار السلمي.
بدلا من التواطؤ عمليا في الجرائم التي يرتكبها المجلس العسكري ضد شعبه، ينبغي للمجتمع الدولي أن يعترف بحكومة الوحدة الوطنية، التي أثبتت ذاتها كحكومة قابلة للاستمرار وقادرة على توفير الاتجاه السياسي وجمع الإيرادات من المؤيدين المحليين والمغتربين. ولأن الفوز في الحرب الأهلية أو خسارتها تتوقف في النهاية على سير الأحداث في ساحة القتال، فإن هذا يعني أيضا تسليح المعارضة بأسلحة دفاعية، خاصة الأسلحة المحمولة المضادة للطائرات، التي من شأنها أن تعمل على تحييد الغارات الجوية العقابية التي تودي في الأغلب بأرواح المدنيين.
إن أهل ميانمار يخاطرون بحياتهم لاستعادة المستقبل الذي سرق منهم.