أسواق النفط بين التخمة والتضور
يقول أرسطو "فضيلة العدالة تتلخص في الاعتدال الذي تصنعه الحكمة"، وأقول إن العالم في خضم هذه الظروف الصعبة والتحديات الضخمة في أمس الحاجة حقا إلى الحكمة التي تقود إلى الاعتدال ومن ثم العدل.
النفط شاؤوا أم أبوا كان وما زال وسيبقى لمدة طويلة متربعا على عرش مصادر الطاقة العالمية بعيدا عن المماحكات السياسية والاقتصادية. والحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هي أنه لو كان لأسواق الطاقة تاج فالنفط جوهرته.
استقرار أسواق الطاقة واستدامتها وسلامة شرايينها، هي عين التطور وأساس التنمية وقلب المدنية النابض، بل عصب الصناعة وعمودها الفقري. والمتابع لتبعات الحرب الروسية الأوكرانية بسبب تعطل أو تعطيل شرايين الطاقة الروسية لأوروبا، يعي يقينا أثرها الحاد في الاقتصاد الأوروبي عموما، وفي مصانعها خصوصا.
الحرب الروسية الأوكرانية التي ألقت بظلالها على منتجات الطاقة في أوروبا، وعلى رأسها الغاز، الذي ارتفعت أسعاره إلى مستويات قياسية بنحو 1000 في المائة خلال العام الماضي، ما أدى بطبيعة الحال إلى تعثر بعض المصانع ومعاناة كثير منها، حيث ارتفعت فاتورة الكهرباء إلى خمسة أضعاف في بعض دول أوروبا، وهذا بلا شك تهديد حقيقي وخطر جسيم على الصناعة الأوروبية، خصوصا الدول التي تعتمد بصورة كبيرة على شرايين الطاقة الروسية.
في رأيي، أن الدول وصناع القرار ينقسمون إلى أربعة فرق في التعامل مع ملف النفط، وأن هناك حربا ضروسا على الساحة الدولية حول هذا الملف، ولا أبالغ بالقول إنها حرب أزلية حتى آخر برميل يستخرج من باطن الأرض.
فريق يود أن تصاب أسواق النفط بتخمة دائمة، وهذا يعني أن العرض يتعدى الطلب بمراحل، ما يؤول بطبيعة الحال إلى انخفاض أسعار النفط إلى مستويات متدنية تفرح المستهلكين بلا شك.
والفريق الآخر على النقيض تماما يأمل أن يتجاوز الطلب العرض بكثير، لكون ذلك سيدفع بالأسعار إلى مستويات مرتفعة يستفيد منها بلا شك المنتجون.
مفهوم أمن الطاقة العالمي، واستقرار أسواقها وتوازن أسعار وسلامة إمداداتها في الواقع أكبر من مطامع المستهلكين ورغبات المنتجين، وأن هذا الاستقرار في أسواق الطاقة وسلامة إمداداتها هو بلا شك استقرار لجميع الدول وجل الأنشطة، والأحداث تاريخيا علمت كل ذي لب منصف ذلك.
ومن هذه الأحداث القريبة جائحة كورونا التي نحرت الاقتصاد العالمي من الوريد للوريد، والحرب الروسية الأوكرانية التي أخلت بأسواق الطاقة وسلامة إمداداتها.
هذه الأحداث علمتنا أنه من الصعوبة استقرار الدول والمجتمعات التي تواجه شحا في الطاقة، أو اضطرابا في إمداداتها.
الفريق الثالث هو الفريق الحكيم الذي يتعامل مع هذا الملف الحيوي والاستراتيجي بمسؤولية بعيدة كل البعد عن الأجندات الضيقة، حيث يؤمن هذا الفريق أن استقرار أسواق النفط وتوازن أسعارها عند مستويات مناسبة للمنتجين والمستهلكين على حد سواء، هو الخيار الأجدى الذي يصب في مصلحة الجميع.
وهذا ديدن "أوبك" بقيادة السعودية، وإن أراد البعض تغييب هذه الحقيقة أو تشويهها.
أما الفريق الرابع، فهو فريق متناقض غير موضوعي ينادي بتقويض صناعة النفط والاستثمار فيها تارة، ويستجدي المنتجين رفع الإنتاج تارة أخرى، فريق يصرح من فوق المنابر أن نجم الوقود الأحفوري، وعلى رأسه النفط، آفل لا محالة قريبا، ومن المنبر ذاته يقول بثقة، إن الطلب على النفط سيبقى قويا في العقود المقبلة!