الأمم المتحدة: نكوص عالمي يهدد الأمن والاستقرار
أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في آخر ربع من العام الماضي، التقرير السنوي حول التنمية البشرية عن 2021-2022 بعنوان، "زمن بلا يقين، حياة بلا استقرار: صياغة مستقبلنا في عالم يتحول"، بلا عناية ولا اهتمام في الأوساط الإعلامية، فالتعاطي مع إصدار جلل اعتبارا لما تضمنه من مؤشرات وأرقام حول واقع البشرية ومستقبلها، كان ضعيف الوقع والصدى، وانتشر على نطاق جد محدود.
إطلالة سريعة على محتوى التقرير الذي جاء في جزأين، تضمن الأول عنوان: "زمن بلا يقين، حياة بلا استقرار" ثلاثة فصول (عقدة عدم يقين جديدة، اضطراب العقول في زمن بلا يقين، تسخير التنمية البشرية لتلمس المسار) حاولت جاهدة، ومن زوايا نظر مختلفة، تشخص الوضع العالمي الراهن. وانصب الجزء الثاني، كما يكشف العنوان ذلك، وبوضوح على "رسم مستقبلنا في عالم يتحول"، بدءا من مناقشة معوقات التحرك في الفصل الرابع (ماذا يحول دون تحركنا معا؟)، متبوعا ببحث سبل "التقدم باعتماد التنمية البشرية في زمن بلا يقين"، انتهاء بآخر فصل يعمل على "رسم مسارات نحو التحول"، تفرض إيلاءه كل الاهتمام والعناية لا التجاهل واللامبالاة.
يفسر مراقبون ذلك بسياق صدور التقرير الذي تزامن مع فترة اضطراب عالمي، فالكوكب بالكاد يتعافى من مخلفات جائحة كورونا، حتى تداعى من جديد أمام تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وقبل ذلك وبعد ويلات المعضلة المناخية، من حرائق وجفاف وفيضانات وحرارة مرتفعة وكوارث طبيعية مروعة... تمتد في الزمان والمكان، مؤكدة وهن وعجز إنسان زمن الذكاء الاصطناعي، أمام ما اقترفت يداه.
تشريع لواقع عالمي مضطرب
يؤكد التقرير أن النظام العالمي الذي جرى تصميمه لمواجهة تحديات ما بعد الحرب العالمي الثانية، لم يعد قادرا، في ضوء التحولات العالمية، أن يواجه تحديات ما بعد الألفية. فأسلوب "إطفاء الحرائق" المعمول به لمواجهة الأزمات المتلاحقة، يبقى عاجزا عن معالجة جذور المشكلات التي تواجهنا. فالعالم في أمس الحاجة، وعلى وجه الاستعجال، بحسب معدي التقرير، إلى إحداث تغيير في كيفية مواجهة الأزمات، قبل الوصول إلى نقطة يصبح فيها الإصلاح متعذرا.
تفيد الأرقام الواردة في التقرير بأن العالم دشن مرحلة النكوص، فمؤشر التنمية البشرية تراجع في 90 في المائة من دول العالم، إلى المستويات التي بلغتها قبل 2016، ما يعني إهدار مكاسب خمسة أعوام سابقة للتنمية البشرية. فضلا عن أن البرنامج الذي يقيس أوضاع الصحة والتعليم والمعيشة، يسجل لأول مرة، منذ انطلاقه قبل 32 عاما، انخفاضا لعامين متتاليين على الصعيد العالمي، حيث شهدت تسع من كل عشر دول تراجعا في مؤشرات التنمية لديها.
يثبت خبراء التقرير مركزية الجائحة والحرب في تحقيق هذا التراجع عالميا، فالحدثان من أكبر المظاهر المدمرة والصانعة لكثير من صور عدم اليقين في عالم اليوم. لكنهم في الوقت ذاته، لا يستبعدون مساهمة التوترات المحلية والإقليمية، إلى جانب التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وكذا تقلبات المنظومة المناخية والبيئية المتوالية، في بلوغ مستوى عال من المخاطر أثر بوضوح في حياة سكان الأرض.
يسجل الفريق أن تراجع مؤشرات التنمية البشرية، غير مرتبط فقط بالصحة والغداء والاقتصاد... بل في سابقة من نوعها في تاريخ الإنسانية، تلوح تهديدات وجودية من صنع البشر في الأفق، بشكل أكبر من تلك الناجمة عن الأخطار الطبيعية. وفي تعداده لها يتجاوز الأزمات التقليدية (الحروب والصراعات والكوارث البيئية...) للتركيز على حالة الاستقطاب السياسي والاجتماعي المتزايدة، في الأعوام الأخيرة، بسبب هدير الأصوات الداعية إلى الانعزال، والمشككة في المؤسسات والنخب، ما ولد مآسي أثرت في حياة الملايين من البشر.
يخلص التقرير في جزئه الأول إلى أن العالم، من أقصاه إلى أقصاه، يتخبط في حالة من التيه وعدم اليقين المتنامي، بسبب ما يحف بنا من كوارث "بعضها طبيعي، والبعض الآخر "صنيعة إنسانية ضد أخيه في الإنسانية" (حروب، صراعات، استقطاب...). ما يفرض بالضرورة والاستلزام البحث عن السبل الكفيلة لإخراج العالم من حالة الشلل التي تعتريه تدريجيا، بالدفع به قدما نحو استعادة مساره الإنمائي لتأمين المستقبل للناس والكوكب معا.
بحثا عن منافذ لمستقبل أفضل
بات الجميع اليوم، وفق توصيات التقرير، مطالبا برسم مسارات جديدة لسياسات ومؤسسات التنمية، ما يعني أن الحاجة ماسة إلى مراجعة منظورنا للتنمية باعتبارها عملية تكيف مع واقع مجهول. نخلص، بقراءة ما وراء السطور، إلى أن البراديغم التقليدي للتنمية البشرية، بات غير قادر على مسايرة ما يجري في العالم من تقلبات، أوجدت حالة من غياب الأمن وانعدام الاستقرار.
لذلك، بات لزاما طرح منظور أوسع وأشمل للتنمية البشرية، يأخذ بعين الاعتبار مختلف التحولات التي تعصف بمجتمعات العالم المعاصر، لكونها في النهاية وحدة مترابطة تتفاعل، بدرجات متفاوتة، في تشكيل تقاسيم المشهد العالمي الحالي. مطلب حرص معدو التقرير على العمل به، بتوسيع دائرة البحث في دواعي الاضطرابات، لتشمل ما يتولد عن التقنيات الجديدة تحت مسمى "اضطراب العقول" نتيجة سيطرة العوالم الافتراضية على عالمنا، وما يترتب عن ذلك من معلومات مضللة وانعدام للثقة... ما يعزز ويغذي حالة اللايقين.
حالة ليست بالجديدة، فتاريخ البشرية حافل بلحظات اللايقين المصاحبة للانتقالات الكبرى التي عرفها العالم، من بواكير الثورة الزراعية إلى أمجاد الثورة الصناعية. لكن ما يلاحظ، أن الحالة الراهنة أخطر وأعظم صور اللايقين التي شهدها التاريخ الإنساني، بسبب كثرة المتدخلين في صناعتها أولا. وثانيا، لتعقد كيفيات وأساليب مساهمة عنصر على حدة. وأخيرا، لاعتبار السرعة التي تنتشر بها في أصقاع العالم، فهذه ربما المرة الأولى التي يصبح فيها العالم مترابطا ومتواصلا بهذا الشكل.
رغم هذا الحصاد، يصر فريق التقرير على إعطاء الأهمية لمشروع التنمية البشرية في العالم، فلا حل في نظرهم أمام كل التحديات الجديدة، سوى مزيد من تطوير أدوات ووسائل العمل، للتمكن من إبداع حلول من شأنها المساعدة على تجاوز الوضع القائم، فلا بديل أمام العالم سوى "نافذة ضيقة لإعادة تهيئة أنظمتنا، وتأمين مستقبل قائم على عمل مناخي حاسم، وتوفير فرص متجددة للجميع".
يدافع هؤلاء على فرص نجاح هذا التوجه في التعاطي مع الوضع العالمي، مطالبين بضرورة توظيف ما جاد به التطور التكنولوجي، من ذكاء اصطناعي وطاقات نظيفة ومتجددة... قصد تعزيز قدرات البشر على التنبؤ بالمخاطر واستباقها، وتحسين قدرات وأحوال عيش الإنسان. فالتغلب على حالة عدم اليقين "تحتاج إلى مضاعفة جهودنا في مجال التنمية البشرية والنظر إلى ما يتجاوز ثروات الناس أو صحتهم. هذه الجوانب تظل مهمة. لكن يتعين علينا أيضا أن نحمي الكوكب ونزود الناس بالأدوات التي يحتاجون إليها ليشعروا بقدر من الأمان، وليستعيدوا الشعور بالسيطرة على حياتهم والأمل في المستقبل".