القمة الفرنسية - البريطانية .. إكراهات اليوم تجب عداوات الأمس
شهدت العاصمة الفرنسية، نهاية الأسبوع الماضي، قمة استثنائية ثنائية، جمعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني، بعد خمس سنوات عجاف، اتسمت بالجفاء والتشنج وكثير من التوتر بين الطرفين. وقبل أيام من الزيارة التي سيقوم بها الملك تشارلز الثالث والملكة كاميليا، ما بين 27 و30 من الشهر الجاري إلى فرنسا، في أول زيارة خارجية من نوعها للعاهل البريطاني، منذ تولي عرش المملكة في أيلول (سبتمبر) الماضي.
يسعى الجانبان إلى إطلاق صفحة جديدة في علاقتهما، فالظروف الراهنة تحتم على البلدين قسرا، تجاوز أو على الأقل تجاهل، أسباب الاضطراب السياسي الذي أعقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي 2016، ثم ما لبث أن بلغ ذروته، بعد وصف ليز تراس رئيسة الوزراء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بصاحب "النوايا غير الواضحة"، مضيفة أن "الزمن سيظهر إذا ما كان صديقا أم عدوا".
التحديات والرهانات أكبر من انتظار الزمن لكشف نوايا الزعيم الفرنسي، ما دفع الطرفين نحو التعجيل بتدشين "بداية جديدة" في العلاقات الثنائية، خاصة مع وجود قواسم مشتركة بين الزعيمين. ففي الجانب الشخصي، يمتلك الرجلان خلفية مصرفية استثمارية، ويلتقيان في الانتماء إلى أحزاب يمين الوسط، فضلا عن التقارب من الناحية العمرية الذي ينعكس على التوجهات الفكرية. وعلى الصعيد السياسي، يواجهان المشكلات الداخلية نفسها "إضرابات فئوية، واحتجاجات شعبية..." وحتى الخارجية "مشكلة الهجرة، الحرب الأوكرانية، وأزمة الطاقة...".
فرنسا .. بحثا عن حلفاء جدد
تدريجيا، تجاوزت باريس جذور الخلاف مع لندن، بدءا من صدمة الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وما رافق ذلك من "علاقات مروعة مع بوريس جونسون رئيس الوزراء الأسبق"، بحسب تعبير دبلوماسي فرنسي، مرورا بأزمة بصفعة الغواصات التي قضت على البقية الباقية من الثقة بين الطرفين. فبسبب التحالف الثلاثي بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، خسرت فرنسا ما عد "صفقة القرن"، بعد التخلي عن الغواصات الفرنسية التقليدية لمصلحة غواصات أمريكية بريطانية حديثة، وليس انتهاء بقضية حقوق الصيد بالقرب من السواحل البريطانية التي كادت أن تنقلب اصطداما بين الطرفين.
تعقد معطيات الحرب في أوكرانيا، عجل بتنحية جزء كبير من الخلافات بين الطرفين، فالمخاطر المحدقة بالأمن القومي الأوروبي بسبب ارتفاع التهديدات الأمنية التي تفرضها موسكو على أوروبا، تحتم على العضوين الدائمين في مجلس الأمن، وعلى أقوى جيشين في القارة العجوز "الجيش البريطاني الخامس عالميا، والجيش الفرنسي التاسع عالميا"، وجوبا وعلى وجه الاستعجال، التعاون والتنسيق الدفاعي، من أجل دعم الحرية ومواجهة ما يعده الطرفان "عدوانا روسيا على أوكرانيا".
وضع يضفي على مطالب فرنسا المتكررة بتأسيس قوة عسكرية - أوروبية، بعيدا عن حلف الناتو، مزيدا من الشرعية لتعزيز الوضع الدفاعي للقارة الأوروبية، ولا سميا أن التعاون صادر عن الدولتين النوويتين الوحيدتين داخل أوروبا. وفي ذلك أكثر من رسالة إلى الجانب الروسي الذي ما انفك يهدد، بين الفينة والأخرى، باستخدام السلاح النووي، وإلى الولايات المتحدة التي تتزعم المعسكر الغربي، بعدما اختارت توجيه بوصلتها بعيدا عن أوروبا نحو القارة الآسيوية، وعلى وجه التحديد إلى المحيط الهادي ومنطقة الباسيفيك.
تمثل القمة الفرنسية - البريطانية بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي فرصة لإعادة بعض الوجاهة إلى فرنسا في الخريطة العالمية، بعد سقوطها المدوي في القارة الإفريقية، فالرجل بهذه المبادرة يجعل فرنسا دولة أوروبية تمد يدها في شراكات استراتيجية نحو بريطانيا بعد "بريكست"، علاوة على سعيه الدؤوب نحو الظفر بزعامة الاتحاد الأوروبي خلفا للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وفوق ذلك كله يصنع حلفاء جددا بدلا عن ألمانيا التي توترت العلاقة معها في أكثر من ملف وقضية "دعم أوكرانيا، وسياسة الطاقة...".
دون إغفال حسابات الداخل الفرنسي. فمن ثمار القمة تسوية الخلاف بشأن حقوق الصيد، وذلك بإبداء السلطات البريطانية مزيدا من المرونة تجاه السفن الفرنسية في المياه الإقليمية للمملكة، علاوة على تسوية جديدة لملف الهجرة، كما ورد في بيان الرئاسة الفرنسية، ببنود تعزز التعاون وسبل السيطرة على تدفقات الهجرة من فرنسا، تضاف إلى توافقات معاهدة ساندهيرست الموقعة في 2018.
خطوة بأكثر من مكسب بالنسبة إلى فرنسا، فمن شأن تشديد الرقابة على المناطق الحدودية بين الطرفين أن يخلص البلاد من مخيمات اللاجئين المنتشرة على السواحل الشمالية للبلاد، علاوة على وقف تدفق المهاجرين من إيطاليا ودول أوروبا الشرقية نحو فرنسا في انتظار فرصة ولوج الأراضي البريطانية، كما يضمن الاتفاق ضخ عائدات مالية مهمة في خزينة الدولة.
بريطانيا .. سعيا وراء التنفيس والاستقرار
من جهته، يحاول رئيس الوزراء البريطاني -عكس من سبقوه- ترميم الشقوق والتصدعات التي شابت العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي بعد واقعة الخروج، وفي مؤشر يبعث على الراحة والاطمئنان لدى شريحة واسعة من المواطنين في بريطانيا، فهو بمنزلة إعلان عن عودة المياه إلى مجاريها بين الطرفين، ومن خلال فرنسا إلى بقية دول النادي الأوروبي.
وكان ريشي سوناك شديد الحرص على وصول هذه الرسالة إلى الداخل البريطاني، حين سبق الزيارة ببيان جاء فيه أن "تاريخنا المتجذر وتقاربنا ورؤيتنا المشتركة للتحديات العالمية تعني أن الشراكة الوثيقة بين المملكة المتحدة وفرنسا ليست مهمة فحسب، بل إنها ضرورية"، وأضاف في كلمة أخرى تخللت الزيارة أنه "في وقت نواجه فيه تهديدات جديدة وغير مسبوقة، من الضروري تعزيز أسس تحالفنا لنكون جاهزين لمواجهة تحديات المستقبل".
لا يغيب الملف الاقتصادي عن أعين لندن، فالعلاقات التجارية النشيطة مع أقرب الشركاء والجيران تبقى السبيل الوحيدة لطمأنة المستثمرين، وتخفيف الركود والتضخم اللذين يخنقان الاقتصاد البريطاني. خاصة أن حجم التبادل التجاري بين البلدين تراجع في الأعوام التي أعقبت انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فالرقم لم يتعد 57 مليار دولار عام 2021، قبل أن يعاود الارتفاع، برسم العام الماضي، مسجلا 66,5 مليار دولار.
اجتماعيا، يحضر ملف الهجرة غير الشرعية الذي يتصدر اهتمامات الرأي العام البريطاني إلى جانب الشؤون الاقتصادية، في ظل تزايد أعداد المهاجرين الوافدين على الأراضي البريطانية عبر قناة المانش في قوارب صغيرة. فالعام الماضي، سجلت السلطات الحكومية وصول ما يفوق 45 ألف مهاجر غير شرعي من فرنسا، ما يمثل زيادة قدرت بنحو 60 في المائة قياسا بالعام الذي سبقه.
تعهد رئيس الوزراء بمنح باريس مساهمة حددت بـ480 مليون جنيه استرليني على مدى العوام الثلاثة المقبلة "2023 - 2026" لدعم الجهود الفرنسية قصد مواجهة هذه الظاهرة، وزاد فيما يؤكد عمق الشراكة بين الجانبين "نعلن عن مركز احتجاز جديد في شمال فرنسا ومركز قيادة جديد يجمع للمرة الأولى فرقنا... و500 عنصر إضافي يقومون بدوريات على الشواطئ الفرنسية".
القمة فعلا استثنائية، بالنظر إلى قدرة الطرفين على تورية العداوة الدفينة بين الجارين، لأجل التنسيق والتعاون لمواجهة المخاطر المحدقة بهما على الجبهتين الخارجية والداخلية، مثبتين بذلك حكمة أنه "لا عداوة ولا صداقة دائمة في عالم السياسة"، فالمصلحة الفضلى للبلد تبقى لبوصلة الأحلاف والاصطفاف أولا وأخيرا.