الزمن الصيني .. الشرق يتقدم والغرب يتراجع

الزمن الصيني .. الشرق يتقدم والغرب يتراجع

تسارع الصين الزمن، بالتحرك على مختلف الجبهات، بحثا عن منافذ للتسلل وتوسيع مساحات النفوذ والتمدد في العالم، دون الوصول إلى نقطة الصدام المباشر مع الولايات المتحدة. فبعد النجاح في كسب الرهان "الجيو - اقتصادي"، آن أوان التحدي "الجيو - سياسي" بتسجيل تحرك موزون للدبلوماسية الصينية، على مسرح الأحداث العالمي، ببعض مناطق النزاع والتوتر، في مساعٍ لمعادلة الوزن الاقتصادي للدولة بالنفوذ الاستراتيجي، كخطوة جديدة ضمن خطة تشكيل معالم نظام دولي جديد في الأفق المنظور.
تلعب الصين بورقة "الوساطة الدبلوماسية"، في سياق مزاحمة الولايات المتحدة على قيادة العالم، في هدوء وسكينة بلا عويل ولا مناطحة، ما يعد تمسكا بنهج صيني أصيل، يفضل التسلل عبر الشقوق على المواجهة المباشرة. تطور جديد في الساحة الدولية، دفع عددا من المراقبين والخبراء إلى الحديث عن "اللحظة الصينية"، تمهيدا للزمن الصيني مستقبلا، على غرار الزمن الأمريكي في القرن الـ20، والزمن البريطاني في القرن الـ19.
صحيح أن تزايد وتيرة التحرك الصيني على الصعيد الدبلوماسي، مرتبط في ظاهره بالحرص على تسجيل الحضور في الصراع والأزمات الدولية، فالتقدم الاقتصادي وحده غير كاف لتكريس التفوق الصيني. لكنه في الباطن، محاولة ذكية من بكين للانفلات من سياسة الاحتواء الأمريكي، التي كانت السبب، وفق الرئيس شي جين بينج، وراء تراجع النمو الاقتصادي الصيني العام الماضي.
ورقة الوساطة الصينية
خطوة بعد أخرى، تثبت الصين مشروعية المخاوف الأمريكية التي تتردد على لسان ممثلي الإدارة الأمريكية، فوزير الخارجية أنتوني بلينكن، أكد أن الولايات المتحدة ترى في الصين أخطر تحد طويل الأمد للنظام الدولي، كونها تحاول إعادة تشكيل النظام الدولي بما تمتلكه من قوى اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية وتكنولوجية. وطالب هنري كيسنجر، عراب السياسة الخارجية، من جهته، في مقابلة صحافية، بضرورة "إيجاد مكان لأوكرانيا ومكان لروسيا.. إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا موقعا أماميا للصين في أوروبا".
بعيدا عن الاقتصاد، أصبحت الصين تقدم نفسها وسيطا لحل النزاعات في العالم، فبعد نجاح مبادرتها في إنهاء قطيعة، دامت سبعة أعوام، بين السعودية وإيران، بتوقيع اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. يرعى الرئيس الصيني، منذ شباط (فبراير) الماضي، خطة لإرساء السلام في أوكرانيا، مكونة من 12 بندا، استأثرت بجانب مهم من جدول أعمال القمة الروسية - الصينية الأخيرة في موسكو، ما يفيد عزمها المضي قدما في تجاوز كل معوقات إنهاء الحرب، ولا سيما أنها، بحسب الرئيس شي، "تسترشد بمبادئ الأمم المتحدة.. وتسعى إلى تسوية سليمة".
بذلك تبعث بكين رسالة قوية إلى واشنطن، تفند المزاعم الأمريكية بأن الصين مهمة فقط بتأمين مصالحها الاقتصادية، وغير مبالية إطلاقا باستقرار النظام الدولي. وتثبت في الوقت ذاته أن الولايات المتحدة لم تعد الفاعل الدولي الوحيد، وما توالي الوساطات الصينية سوى دليل على المكانة والقدرة الدبلوماسيتين للبلد، فضلا عن كونه مؤشرا على الموثوقية، وكلها عناصر أساسية للقيادة الدولية التي تسعى وراءها الصين.
تأكيدا من الصين على نيتها التحول إلى فاعل سياسي دولي، بعزمها الانخراط المكثف في حلحلة الأزمات، والمساعدة على التوصل إلى تسوية لها. أصدرت بكين في فبراير الماضي مبادرة الأمن العالمي، بهدف القضاء على الأسباب الجذرية للنزاعات الدولية، وتشجيع الجهود المشتركة لحل الخلافات بطرق سليمة، لتحقيق الأمن والاستقرار في عصر متقلب ومتغير، مع الوفاء دوما لمبدأ "عدم التدخل في شؤون بقية الدول".
انفلات من التطويق الأمريكي
فضلا عن كون الوساطة في النزاعات الدولية فرصة الصين لتصريف الوزن الاقتصادي بمقابله على الصعيد الدبلوماسي، فهي كذلك سبيل للفكاك من سياسة الاحتواء الأمريكي، إذ تحاول واشنطن إقناع عدد من الدول الحليفة "اليابان، كوريا الجنوبية، بريطانيا، هولندا..." قصد الانخراط في خطة، أعلنتها في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ترمي حظر تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين، وذلك بهدف عرقلة الإقلاع الصيني.
لذا تحرص الصين على مزاحمة واشنطن على الواجهة الدبلوماسية، قصد إقناع الدول المترددة أو المشككة في إمكانية الرهان عليها، عكس سردية "البراجماتية الصينية" التي تروج لها الإدارة الأمريكية. من شأن ذلك أن يتيح لبكين هامش مناورة أكبر لتوسيع نفوذ في مختلف الأقاليم، بعد نجاح تحركاتها في الشرق الأوسط، معقل الولايات المتحدة، دون أن تزيغ عن بوصلة الدبلوماسية الصينية، حيث أعلن وزير الخارجية تشين جانج، أن "الصين تحترم تماما دول الشرق الأوسط بصفتها سادة شؤونها، وليست لديها نية لملء ما يسمى الفراغ، ولن تبني دوائر حصرية في المنطقة".
توسيع النفوذ، يشجع الصين للمضي قدما في صياغة نظام اقتصادي بعيدا عن مظلة الدولار الأمريكي، بعدما أثبتت التجربة، ولا سيما خلال الحرب الروسية - الأوكرانية، على اعتبار أن الشروع في الإجراء كان في 2014، فاعليته في مواجهة سلاح العقوبات الأمريكية. يتوقع أن يخفف هذا التوجه من وقع التطويق الأمريكي للصين، مقابل تعزيز التحلل من هيمنة الدولار على التجارة الدولية، مع ارتفاع الدول المقتنعة بنجاعته مثل مجموعة بريكس وأعضاء منظمة شنغهاي.
ضدا على سياسية التطويق دائما، وخشية السقوط في الخطأ الروسي، تعمل الصين على مضاعفة مخزونها من الذهب، على الرغم من امتلاكها أكبر احتياطي من الذهب عالميا، فأرقام أواخر 2022 تفيد حيازة الصين ما قيمته 117.24 مليار، لكن ذلك لم يثنها عن شراء الذهب مطلع العام الجاري، حيث زادت حيازتها من الذهب لما يقارب ألفي طن. قرار عادي ومنطقي من جانب الحكومة الصينية، بالنظر إلى ما قد يتلاقاه الاقتصادي من صدمات أو عقوبات من شأنها تعرض البلد للخطر.
تسعى الصين إلى مراكمة الأسلحة، إلى جانب الذهب، فاعتماد أسلوب التسلل القائم على السلمية والهدوء، لا يعني التفريط في القدرات العسكرية التي تبقى مظهرا من مظاهر القوة العظمى عالميا. ما حدا بالصين إلى الإعلان في آذار (مارس) الماضي عن خطة لزيادة حجم الإنفاق العسكري 7.2 في المائة خلال العالم الجاري، بذلك يصل إجمالي الإنفاق العسكري إلى ما يقارب 225 مليار دولار.
أي فرصة لـ «السلام الصيني»؟
تبدو الصين حتى اللحظة ناجحة في استراتيجية اللعب على الحبلين، فالإمعان في التمدد وبسط النفود، وفق مبدأ "عدم التدخل" في الشؤون الداخلية للدول الشريكة، بعيدا عن ابتزاز ومساومة الغرب المقدم في شكل مواعظ حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، أكسبها مصداقية ومقبولية على الصعيد الدولي. فضلا عن تمكنها من الإفلات من مساعي واشنطن المصممة على إسقاطها، في مدار السباق نحو قمرة قيادة العالم.
عزم وإصرار بكين جعل خبراء يتساءلون عن الأدوار الممكنة للصين في النظام الدولي مستقبلا، فيما أجاب آخرون بأن التنين يتجه بثبات نحو تدشين عصر السلام الصيني Pax Sinica، على غرار عصر السلام الأمريكي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، بفضل تصدي واشنطن للاتحاد السوفياتي من ناحية، ومساهمتها الرائدة في تحقيق نهضة اقتصادية عالمية من خلال تأسيس واحتضان مؤسسات دولية. وعصر "السلام البريطاني"، منذ أواسط القرن الـ19، حين قامت المملكة المتحدة، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بأدوار محورية في ضبط توازن القوى الكبرى داخل أوروبا.
هذا العصر -إن وقع- لن يكون جديدا بالنسبة إلى دولة عظمى كالصين، فالتاريخ يفيد اضطلاع سلالة هان إبان حكمها البلاد، ما بين القرن الثاني قبل الميلاد والثالث بعد الميلاد، بهذه المهمة، بعد تأسيسها حكومة وجيش قويين ونظاما بيروقراطيا متقدما، حافظت بهم على النظام والاستقرار بمختلف المناطق الخاضعة لنفوذها.
حاليا، تمتلك الصين من المقومات الداخلية، وما توافر لها إقليميا ودوليا من المعطيات ما يجعلها تطلق، وعلى وجه السرعة، عصر السلام الصيني. فالتوتر داخل المعسكر الغربي، بدءا من واشنطن وليس انتهاء بباريس، وفقدان البوصلة حد التيه الاستراتيجي بملاحقة الصين في المحيطين الهادي والهندي، والتركيز على أوروبا لاحتواء روسيا.. وغيرها من الأخطاء الاستراتيجية القاتلة تركت العالم مكشوفا أمام الصين التي استغلت الأمر لكشف مدى زيف السرديات الغربية حول الأمن والاستقرار والسلام.

الأكثر قراءة