أرمينيا وأذربيجان .. صراع آخر على أعتاب أوروبا
تحظى الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا باهتمام الجميع، وهو أمر طبيعي. لكن هذا ليس عـذرا لتجاهل أزمة أخرى تختمر على أعتاب أوروبا. فقد عادت التوترات بين أرمينيا وأذربيجان إلى التصاعد مرة أخرى، وهذا يزيد من احتمالات اندلاع حرب أخرى، بحسب آندرس رازموسين، الأمين العام السابق لحلف الناتو (2009- 2014) ورئيس وزراء الدنمارك الأسبق، مؤسس مؤسسة تحالف الديمقراطيات.
الذي قام في الأسبوع الماضي بزيارة إلى ممر لاتشين، الطريق الوحيد الذي يربط السكان من أصل عـرقي أرمني في ناجورنو كاراباخ في أرمينيا والعالـم الخارجي. منذ كانون الأول (ديسمبر)، منع الأذربيجانيون الوصول إلى الممر تحت ذريعة الاحتجاج البيئي. ومن الواضح أن هذا يحدث بدعم من النظام في باكو. مع قيام "المحتجين" بإعاقة حركة المرور المدنية أو التجارية إلى ناجورنو كاراباخ بالكامل، تحذر منظمة العفو الدولية من حرمان نحو 120 ألف شخص من السكان من أصل عـرقي أرمني من المنافع والخدمات الأساسية، بما في ذلك الأدوية المنقذة للحياة والرعاية الصحية.
بموجب اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى حرب ناجورنو كاراباخ في 2020 بين أذربيجان وأرمينيا، تعهدت أذربيجان بضمان حرية الحركة على طول الطريق في كلا الاتجاهين. أقرت محكمة العدل الدولية بأن أذربيجان تنتهك التزامها برفض رفع الحصار، وعلى هذا فقد أصدرت أمرا في الـ22 من شباط (فبراير) يـطالب أذربيجان باتخاذ كل الخطوات اللازمة لرفع الحصار. لكن بعد مرور شهر لم يتغير أي شيء.
على الرغم من أن قوات حفظ السلام الروسية المتمركزة على طول الممر من المفترض أن تحمي المسار، فإنها لم تتحرك. وما لم تضغط أوروبا والمجتمع الدولي في عموم الأمر على أذربيجان لحملها على رفع الحصار، فقد تتحول الأزمة الإنسانية الحالية إلى كارثة إنسانية.
تستخدم أذربيجان الحصار وغيره من التدابير لخنق ناجورنو كاراباخ. كثيرا ما يـمـنـع المقيمون هناك من العودة إلى منازلهم، كما تـقـطـع عنهم إمدادات الغاز والكهرباء على نحو منتظم دون سابق إنذار أو تفسير. من الواضح أن القصد هو جعل الحياة صعبة قدر الإمكان على السكان الأرمن، ولا يخلو الأمر من خطر حقيقي من تطهير عرقي وشيك. لا يجوز لنا أن نحول أنظارنا بعيدا عن الأحداث الدائرة هناك.
من جانبه، استمر النظام الأذربيجاني "والمتصيدون التابعون له على الإنترنت" في التصغير من شأن التأثيرات المترتبة على الحصار ـ أو حتى وجوده. لكنه رغم ذلك، يرفض السماح للمراقبين الدوليين بالوصول إلى هناك لتقييم الوضع. تتمثل الأولوية الأولى للمجتمع الدولي إذن في إرسال بعثة لتقصي الحقائق إلى الممر تحت رعاية الأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. يجب أن نوضح أن رئيس أذربيجان إلهام علييف سيواجه عواقب مؤكدة إذا استمر في الاستهزاء بقرار محكمة العدل الدولية الملزم. أوضحت حرب ناجورنو كارباخ في 2020 أن أذربيجان تتمتع بميزة عسكرية كبيرة على أرمينيا، بسبب الأسلحة التي اشترتها من روسيا وتركيا وإسرائيل. وقد تكرر التأكيد على هذه الحقيقية في أيلول (سبتمبر)، عندما استولت أذربيجان على أراض داخل أرمينيا ذاتها ـ بما في ذلك مواقع استراتيجية فوق مدينة جيرموك ـ بعد يومين فقط من تجدد القتال.
ورغم أن أرمينيا لا تزال ملتحقة بعضوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي "التحالف الإقليمي الذي يربط روسيا بخمس دول سوفياتية سابقة قريبة"، فإنها لم تحصل على دعم صريح عندما طلبت المساعدة في أعقاب الهجوم على أراضيها السيادية. بل تـركـت ضعيفة وحيدة.
ما يزيد الطين بلة أن أذربيجان أبقت على قواتها على الأراضي الأرمنية ورفضت إعادة أسرى الحرب الأرمن. مع توقف محادثات السلام، تبرز إشارات تحذيرية واضحة مفادها أن أذربيجان تعتقد أن بإمكانها أن تحقق من خلال الوسائل العسكرية ما لا يمكنها تحقيقه بالمفاوضات السلمية. ولا يمكن استبعاد هجوم متجدد على أرمينيا في الأشهر المقبلة.
مع عجز روسيا، التي تزود أرمينيا بالأمان تقليديا، عن تقديم المساعدة ـ أو عدم رغبتها في ذلك ـ يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يضطلع بدور أكبر في الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة. أدرك كل من تشارلز ميشيل رئيس المجلس الأوروبي، وإيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي هذه الحقيقة، وقررا تكريس رأس مال سياسي كبير لهذه القضية. وبعد تجدد اندلاع الأعمال العدائية في سبتمبر، أرسل الاتحاد الأوروبي بعثة إلى أرمينيا لمراقبة الحدود مع أذربيجان.
لكن الأمر يتطلب قدرا أكبر كثيرا من الجهد. من الأهمية بمكان الآن المسارعة إلى توسيع بعثة الاتحاد الأوروبي، التي تنتشر حاليا على الأراضي الأرمينية فقط، لتشمل مراقبة الحدود بين أرمينيا وأذربيجان بكامل طولها. ويجب على القادة الأوروبيين أن يمارسوا الضغوط على حكومة علييف لحملها على السماح لموظفي الاتحاد الأوروبي بالدخول إلى الأراضي الأذربيجانية. بطبيعة الحال، لن تتمكن بعثة الاتحاد الأوروبي غير المسلحة من وقف الأعمال العدائية، لكن تصعيد وجودها من شأنه أن يفرض مزيدا من الضغوط على أذربيجان لحملها على اختيار التفاوض بدلا من المواجهة العسكرية.
على مدار العام الماضي، أقام الاتحاد الأوروبي علاقات اقتصادية وثيقة على نحو متزايد مع أذربيجان، نظرا إلى تحولها السريع بعيدا عن الغاز والنفط الروسيين. لكن يتعين على قادة الاتحاد الأوروبي أن يبلغوا علييف بوضوح أنه لن يـسـمـح له بالتصرف دون خشية من عقاب، وأن مصالح أوروبا التجارية قصيرة الأمد لن تفوق قيمها أو مصالحها بعيدة الأمد في الحفاظ على السلام والاستقرار في جنوب القوقاز. إذا استمرت أذربيجان في الاستهزاء بالتزاماتها الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية الـمـلـزمة قانونا، فيجب أن تواجه عواقب سياسية واقتصادية.
أرمينيا دولة ديمقراطية ناشئة تقع في جوار عامر بالتحديات. ومع تضاؤل نفوذ روسيا، يتعين على أوروبا أن تضطلع بدور أكبر في المنطقة. هذا ليس شكلا من أشكال الصدقة أو الإحسان. فالعمل الآن من أجل منع اندلاع صراع كبير آخر ـ أو حتى عملية تطهير عـرقي ـ في الفناء الخلفي يصب في مصلحة الجميع.