إفلاس الشركات يتمدد

شهد العالم خلال العامين الماضيين تزايدا في حالات الإفلاس بين مكونات كبيرة وعلى رأسها الدول وشركات أخرى ذات أهمية في قطاعات تجارية مختلفة، بسبب الأزمات التي لاحقت العالم خلال هذه الحقبة، ومنها أزمة فيروس كورونا ومن ثم الحرب الروسية- الأوكرانية الدائرة التي ألقت بظلالها على مؤشرات النمو الاقتصادي لكثير من الدول، كما أن حالات الإفلاس التي سجلت أربكت كثيرا من الأطراف ذات العلاقة بالمشهد الاقتصادي والنمو خاصة حركة الاستثمار والمستثمرين.
وفي هذا الصعيد لم تكن موجة تعثر البنوك الأمريكية والعالمية خارج السياق، بل هي ضمن موجة عالمية من الإفلاس، فمع انتشار فيروس كورونا في العالم اتخذت الحكومات كثيرا من القرارات الاستثنائية لحماية الاقتصاد العالمي، حيث تم الاتفاق بين دول مجموعة العشرين على تقديم إعفاءات للدول الأقل دخلا وتأجيل الدفع للسماح لتلك الدول باستخدام الأموال من أجل دعم الاقتصاد المحلي فيها والفئات الأكثر تضررا، كما اتخذ صناع السياسة في مجموعة العشرين قرارات بدعم الاقتصاد المحلي وتقديم دعم واسع النطاق للشركات خاصة الصغيرة والمتوسطة ودعم الأفراد وحماية الرواتب من أجل المحافظة على الوظائف.
وقد أوجدت كل تلك الإجراءات تحفيزا، فقدمت الحوكمة الفيدرالية في الولايات المتحدة وحدها ما قيمته 817 مليار دولار، وقدم الكونجرس 800 مليار دولار على شكل قروض لحماية الرواتب للشركات الكبيرة والصغيرة، وقد انتهت كل هذه البرامج في منتصف 2021، ليس في الولايات المتحدة فقط بل في معظم دول مجموعة العشرين، وأسهمت هذه الإجراءات في حماية عديد من الشركات التي كانت تواجه ضغوطا من الدائنين، لكن هذه الإجراءات وهذا الدعم قد مكن الشركات المتعثرة من تأجيل الإفلاس خلال فترة الجائحة لكنه لم يمكنها من تجنبه، فقد سجلت الإحصاءات في الولايات المتحدة ان ارتفاع إجمالي إيداعات الإفلاس في كانون الثاني (يناير) الماضي بنسبة 19 في المائة لتصل إلى أكثر من 31 ألفا، وارتفع عدد الأمريكيين الذين قدموا طلبات إفلاس عبر الفصول (7 و 11 و 13) بنسبة 20 في المائة.
وعلى صعيد موجة الإفلاسات في ألمانيا أعلن معهد لايبنيتس لأبحاث الاقتصاد "آي دبليو إتش"، وفقا لتقرير نشرته "الاقتصادية"، أن إجمالي عدد الحالات وصل في آذار (مارس) الماضي إلى 959 حالة بارتفاع بنسبة تزيد على 15 في المائة مقارنة بشباط (فبراير) الماضي وبنسبة 24 في المائة مقارنة بمارس من 2022، وأن عدد حالات الإفلاس في المحاكم الابتدائية الألمانية قد بلغت في العام الماضي 14 ألفا و950 حالة إفلاس.
وفي تقرير نشرته مؤسسة Allianz Trade، من المتوقع أن تزداد حالات إفلاس الشركات على مستوى العالم في كل من 2022 (+ 10 في المائة) و 2023 (+ 19 في المائة). وقد ترتفع حالات الإفلاس العالمية عن مستويات ما قبل الوباء في 2023 بنسبة 2 في المائة، ويرى التقرير بأن الارتفاع في حالات إفلاس الشركات هو بالفعل حقيقة واقعة بالنسبة إلى معظم الدول، ولا سيما في الأسواق الأوروبية الرئيسة (المملكة المتحدة، فرنسا، إسبانيا، هولندا، بلجيكا، وسويسرا)، التي تمثل ثلثي الزيادة وفقا للتقرير.
وفي هذا الجانب نلاحظ أن هناك أسبابا شائعة حول العالم تفسر هذه الزيادة في أعداد حالات الإفلاس، لعل أبرزها توقف الدعم الحكومي الذي أنعش المؤسسات والشركات التي كانت تعاني شحا في السيولة، ووفر لها فرصة للتعافي، لكن ذلك لم يكن مجديا كما يبدو لإنقاذ هذه الشركات والعودة بها إلى المسار، ففي تقرير لشبكة "سي. بي. إس" الأمريكية قالت المديرة التنفيذية لمعهد الإفلاس الأمريكي، إن الأموال لم تعد تأتي من الحكومة وعلى الناس الآن دفع أقساط الرهن العقاري ورهون سياراتهم وهناك عديد من الأشخاص الذين لم يتمكنوا من الصمود.
ومن مضمون هذا الحديث تظهر حقيقة أن الدعم وتوفير السيولة للشركات المتعثرة قد لا يكونا الحل الأمثل، بل ترك الأمور تسير وفقا لمجراها الطبيعي. الأمر الثاني يتعلق بالزيادة في ارتفاع الأسعار خاصة أسعار الطاقة، وسبق وحذر البنك الدولي عديدا من دول الأسواق النامية من تفاقم مشكلة الإعسار بسبب المستويات المرتفعة لديون الشركات التي كانت موجودة قبل الأزمة مع احتمالية تعرض عدد كبير من الشركات في هذه الدول لخطر التدفق النقدي أو إفلاس الميزانية العمومية، في حالة حدوث صدمة مفاجئة للأرباح.
الأمر الثالث يتعلق بزيادة أسعار الفائدة والتضخم المرتفع والضغط على ميزانيات الأسر ما يؤثر بشكل ملحوظ في الشراء، وقد ظهرت هذه التأثيرات في قطاع البناء في ألمانيا الذي سجل أكبر انكماش له هذا العام حتى الآن، وتراجع حجم الإنتاج والطلبيات الجديدة بمعدلات أسرع، إلى جانب وجود توقعات سلبية، بحسب التقرير المشار إليه عن الاقتصاد الألماني، كما انخفض مؤشر مديري مشتريات البناء ليصل إلى 42.9 في مارس، مقابل 48.6 في الشهر السابق، وتشير أي قراءة أقل من 50 إلى وجود انكماش في القطاع.
هذه التقارير تشير إلى العلاقة بين حالات الإفلاس وبين الانكماش في قطاع الإسكان، فزيادة حالات الإفلاس بسبب توقف الدعم الحكومي من جانب وارتفاع أسعار الفائدة من جانب آخر، يقود إلى حالة في عدم الرغبة في المجازفة بالاستثمار في القطاع، وهذا ينعكس على مؤشرات سجل قطاع البناء كما في ألمانيا ومؤشر مديري مشتريات البناء، وهذا الاتجاه السلبي قد يؤثر في تدفق الاستثمارات لهذا القطاع ما يتسبب في مشكلات وأزمات مستقبلية.
خلاصة القول ومن خلال هذا المشهد الذي يعكس حالات موجة إفلاسات ضربت نشاط قطاعات مختلفة في أقوى اقتصاد أوروبي، فهذا الوضع ينذر بخطورة مستقبلية لا بد من تداركها من الآن ومعالجتها سريعا حتى لا تكون آثارها سلبية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي