الطريق إلى النمو .. 3 أولويات واجبة «1من 3»
إن وجودي هنا في مبنى ميريديان هاوس ـ ذاك "المنزل البهي الكائن أعلى التل"، يذكرني بما قاله نيلسون مانديلا يوما، "اكتشفت سرا، فما إن تصعد تلا شامخا حتى تجد أن عليك صعود مزيد من التلال". ويبدو ذلك كحالنا خلال الأعوام الثلاثة الماضية ـ نصعد "تلا شامخا" تلو الآخر، لنكتشف أن علينا صعود المزيد. فقد شهدنا جائحة كوفيد في البداية، ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية، يليهما التضخم، وأزمة تكلفة المعيشة التي طال ضررها الجميع. ونجحنا حتى الآن في إثبات صلابتنا في صعود تلك التلال. لكن الطريق أمامنا وعر يلفه الضباب -ولا سيما طريق العودة إلى النمو الصلب-، بل ربما أصبحت الروابط التي تجمعنا معا أكثر هشاشة مما كانت عليه منذ أعوام قليلة.
واليوم، أود الحديث عن كيفية اجتياز رحلة الصعود الشاقة تلك من خلال التركيز على النمو الذي يمثل قضيتنا الأساسية، أي كيفية تحقيق تعاف صلب على المدى القصير، وإرساء الأسس لنمو أكثر قوة واستدامة واحتواء للجميع.
حقيقة أن الآفاق العالمية تعد تعافيا بعيد المنال، فلننظر إلى المشهد الاقتصادي بداية. فقد تلت التعافي القوي الذي شهده 2021 صدمة حادة نتيجة الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعياتها واسعة النطاق، حيث تراجع النمو العالمي في 2022 إلى النصف تقريبا من 6.1 إلى 3.4 في المائة.
واستمر التباطؤ خلال العام الجاري. ورغم الصلابة المدهشة لأسواق العمل ومستويات الإنفاق الاستهلاكي في معظم الاقتصادات المتقدمة، والتحسن الناتج عن إعادة فتح الاقتصاد الصيني، نتوقع نمو الاقتصاد العالمي بأقل من 3 في المائة في 2023.
وكما ستقرأون على صفحات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الذي يصدره صندوق النقد الدولي الأسبوع المقبل، أن النمو لا يزال ضعيفا مقارنة بالاتجاهات التاريخية، سواء على المدى القريب أو المتوسط، كما توجد فروق شاسعة بين المجموعات القطرية. وتشهد الاقتصادات الصاعدة حالة من الزخم إلى حد ما، ولا سيما في آسيا التي تعد نقطة مضيئة، حيث يتوقع أن يعزى نصف النمو العالمي في 2023 إلى الهند والصين. أما في الاقتصادات الأخرى، فستكون تجربة الصعود أكثر صعوبة، حيث يتباطأ النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو بسبب تأثير ارتفاع أسعار الفائدة في مستويات الطلب. ويتوقع تراجع معدلات النمو هذا العام في نحو 90 في المائة من الاقتصادات المتقدمة.
وفي الدول منخفضة الدخل، ترتفع تكلفة الاقتراض تزامنا مع تراجع الطلب على صادراتها. ولا يزال نمو نصيب الفرد من الدخل في هذه الدول دون مستواه في الاقتصادات الصاعدة، وهو ما يمثل ضربة قاسية للدول منخفضة الدخل تجعل لحاقها بالركب أشد صعوبة. ويمكن أن يتفاقم الفقر والجوع، وهو اتجاه خطير نشأ عن أزمة كوفيد. وعلى مدار الأعوام الماضية، اتخذت تدابير قوية ومنسقة على مستوى السياسة النقدية وسياسة المالية العامة جنبتنا تبعات أكثر سوءا. لكن في ظل تزايد التوترات الجغرافية ـ السياسية واستمرار معدلات التضخم المرتفعة، يظل التعافي الصلب مطلبا بعيد المنال، ما يؤثر سلبا في فرص الجميع، ولا سيما الأفراد والدول الأكثر ضعفا.
وهنالك ثلاث أولويات واجبة لا بد من تناولها هنا، وما الذي يتطلبه الأمر إذن لتحسين آفاق النمو على المديين القصير والمتوسط؟ أرى تلالا ثلاثة يتحتم علينا صعودها.
التل الأول، هو مكافحة التضخم مع حماية الاستقرار المالي.
فلا سبيل إلى تحقيق نمو صلب دون استقرار الأسعار، أو دون الاستقرار المالي. وكلاهما يتطلب اهتمام صناع السياسات في الوقت الراهن.
ورغم نجاح البنوك المركزية في رفع أسعار الفائدة بوتيرة هي الأسرع والأكثر تزامنا منذ عقود طويلة، لا يزال التضخم الأساسي يشهد ارتفاعا مزمنا، وهو ما يرجع جزئيا إلى نقص المعروض في أسواق العمل في عديد من الدول.
وفي الوقت نفسه، باتت مكافحة التضخم أكثر تعقيدا في ظل الضغوط التي شهدها القطاع المصرفي، أخيرا، في الولايات المتحدة وسويسرا، وتعد بمنزلة تذكرة بصعوبة التحول السريع من فترة مطولة شهدت أسعار فائدة متدنية وسيولة وفيرة، إلى ارتفاع كبير في أسعار الفائدة، وندرة في السيولة.
كذلك كشفت هذه الضغوط عن إخفاق ممارسات إدارة المخاطر في عدد من البنوك، وعن عثرات رقابية أيضا، لكنها أثبتت أن القطاع المصرفي قطع شوطا طويلا منذ الأزمة المالية العالمية في 2008... يتبع.