محاكمة الرؤساء في السياق الأمريكي

محاكمة الرؤساء في السياق الأمريكي
محاكمة الرؤساء في السياق الأمريكي

افتتح الثلاثاء الماضي، وبشكل رسمي، ملف محاكمة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، بمثوله أمام محكمة جنايات مانهاتن في نيويورك، حيث استمع لقائمة اتهامات جنائية حددت في 34 تهمة، منها ما يرتقي ليكتسب الطابع الجرمي، ما قد يودي به إلى السجن، ومنها تهم أخرى بحاجة إلى التحقيق والإثبات. بعد ثمانية أشهر، وعلى وجه التحديد في الرابع من كانون الأول (ديسمبر)، يعود ترمب إلى المحكمة في جلسة استماع جديدة، يمكن أن تكون حاسمة في مسألة بدء محاكمته من عدمها، مطلع 2024.
في تفاصيل ملف المتابعة، تراوحت الأفعال المنسوبة للرئيس بين تجاوز الصلاحيات وانتهاك المسؤولية التي يتحملها كرئيس، والقيام بالتزوير عند ممارسة الأعمال التجارية، وتقديم رشا لشراء صمت شخص، خشية تأثير حديثه إلى الإعلام في مجرى انتخابات 2016. فيما ينتظر مباشرة التحقيق في تهم أخرى، مثل: التدخل في الانتخابات، ومحاولة تغيير نتائجها "واقعة ولاية جورجيا"، وحجز وثائق رسمية هائلة، في بيته في فلوريدا، دون الإفصاح عن ذلك، فضلا عن تهم تتعلق بالمسؤولية عن اقتحام أنصاره مبنى الكونجرس، في السادس من كانون الثاني (يناير) 2021.
تلقى واقعة متابعة الرئيس السابق وجهات نظر تراوح بين التأييد والرفض، حيث خلفت ردودا متباينة داخل الولايات المتحدة وخارجها. كما فتح الباب مشرعا للتأويل والتأويل المضاد بين أنصار ومعارضي ترمب، وأربك المشهد الحزبي الأمريكي بتأخير الاستعداد والتحضير لمواعيد الانتخابات التمهيدية استعدادا لرئاسيات 2024.
ترمب .. مطاردة وليست محاكمة
لم يكن دونالد ترمب صاحب خلفية سياسية، ما جعله رئيسا غير عادي، ولا سيما مع إصراره على استقدام خلفية رجل الأعمال إلى عالم السياسة، وما دخوله الحزب الجمهوري سوى دليل على ذلك، فقد وصفه بـ"حزب الأغبياء" قبل الانضمام إليه. ثم ما لبث أن كرس منطق إدارة الأعمال في مجال السياسة، بالعسف عن البروتوكول في التعامل مع المسؤولين والزعماء بمن فيهم الحلفاء، "أنجيلا ميركل مثالا"، والتعامل مع جميع القضايا من منظار الربح والخسارة.
منطق حضر بقوة قبل وأثناء المحاكمة، فقد كتب الرئيس "المتهم" عبر منصة "تروث سوشال" مستغربا مما آل إليه الوضع في البلد، قائلا، "مثولي أمام المحكمة سريالي، ولا أصدق أن هذا يحدث في الولايات المتحدة". ثم ما لبث أن انتقد خوان ميرشان، القاضي الذي يتولى رئاسة جلسة محاكمته، معلقا بأنه "من المستحيل الدخول في إجراءات المحاكمة مع قاض معروف بمعارضته لي".
أكثر من ذلك، لا يتردد الرئيس السابق في الحديث عن حملة منظمة مدبرة ممولة من الحزب الديمقراطي ضده، لثنيه عن الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة التي يرى فيها النصر حليفه، كما يؤكد لأنصاره ومؤيديه. ذلك ما جعله يعلن، وبكل ثقة، بأن جميع التهم ستسقط دون عناء كبير، لأنها ليست تهما حقيقية، بل مطاردة سياسية. لذا سيعمل جاهدا على تسخير تداعياتها في معركة عودته إلى البيت الأبيض.
عمليا، شرع ترمب في ذلك، بالتصرف حاليا كمضطهد سياسي، مسترجعا نبرته الشعبوية التي رافقت مرحلة ما بعد خسارة الانتخابات الرئاسية، حين كان يوزع الاتهامات بالتزوير والتسييس ذات اليمين وذات الشمال، رافضا الإقرار بالخسارة. وركز خطته، فيما يشبه حملة انتخابية مبكرة، على ثابتين أساسيين، أحدهما، إظهار الحزب الديمقراطي، في التجمعات الخطابية والمقابلات الإعلامية، في صورة الحزب المناهض للرئيس ترمب. والآخر، ترويج خطاب المظلومية في صفوف الجمهوريين، بغرض الإزاحة المبكرة لمنافسيه المحتملين داخل الحزب من السباق الرئاسي.
هكذا إذن ينجح ترمب في تحويل هذه المطاردة السياسية، حسب تعبيره، إلى فرصة مثالية لتعزيز حضوره الإعلامي، مستغلا الاتهامات الجنائية والتجارية والضريبية والمدنية لمصلحته لا ضده، كما توقع كثر ممن تحدثوا -وبنوع من الاستعجال- عن أفول نجم ترمب معلنين الموت السياسي للرجل.
الأمريكيون .. «لا أحد فوق القانون»
تجعل هذه القضية ترمب بطلا في نظر أنصاره، ما يجعلهم على استعداد للانخراط في كل المغامرات قصد استرجاع رئاسة مختطفة من زعيمهم. عكس عموم الأمريكيين ممن يعدون الرجل، مهما تعددت أوصافه الرئيس والملياردير... في النهاية مواطنا أمريكيا لا يعلو فوق القانون. فإنفاذ هذا الأخير، كان ولا يزال وسيبقى، أساس صلابة البناء المؤسساتي في النظام الأمريكي.
سجل مواطنون أمريكيون عاديون، خارج دائرة أنصار ترمب، مخاوفهم لا من المتابعة في حد ذاتها، وإنما من تواريخ جلسة الاستماع واحتمالية المتابعة، إذ يرتقب أن تتزامن مع موعد الانتخابات التمهيدية للرئاسيات الأمريكية، المقررة في شباط (فبراير) المقبل، ما سينعكس لا محالة على عدم اليقين المحيطة بالسباق الرئاسي إلى البيت الأبيض في 2024.تتزايد المخاوف كذلك من ارتدادات مجريات المحاكمة على الداخل الأمريكي، ورغم أن الحادثة لا تمثل سابقة في تاريخ الولايات المتحدة إلا من حيث الشكل، أي وقوف الرئيس أمام القضاء متهما. فقد سبق أن اتهم رؤساء أمريكيون بانتهاك القانون، وكانت الإدانة السبب وراء استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون، في 1974، بعد مباشرة إجراء سحب الثقة منه في الكونجرس، استعدادا لمحاكمته بعد انتهاك الدستور بالتجسس على الحزب الديمقراطي فيما يعرف بفضيحة "ووترجيت".
تكرر الأمر ذاته مع رونالد ريجان أواخر 1986 في القضية المشهورة باسم "إيران - كونترا"، حين عزمت إدارة الرئيس بيع أسلحة أمريكية إلى دولة عدوة مقابل إطلاق سراح أمريكيين محتجزين في لبنان، واستعمال أموال الصفقة لتمويل حركات "الكونترا" المناوئة للنظام الشيوعي في نيكاراجوا.
بدوره، تعرض الرئيس الأسبق بيل كلينتون، صيف 1998، للتحقيق معه في موضوع علاقته مع موظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، ليس بسبب العلاقة في حد ذاتها، بل لأنه كذب أمام الجميع حين أنكر تلك العلاقة، ما يجعله بذلك منتهكا للقانون. وكان قاب قوسين من تكرار سيناريو سلفه نيكسون، لو تمت إدانته في مجلس الشيوخ على غرار الإدانة التي نالها داخل مجلس النواب.سياسيون من السلطة
نحو السجن
رغم هذه السوابق، فإن محاكمة الرؤساء في السياق الأمريكي تحتفظ بطابع خاص، فالنظام هناك حريص غاية الحرص على تصدير صورة مشرقة عن اختيارات الشعب والنموذج الأمريكي. خاصة، أن المسألة اليوم أضحت مجالا للمنافسة بين الدول، فردا على اتهام واشنطن الصين بكونها "دولة أوتوقراطية" نعت مسؤولون صينيون أمريكا بـ"الديمقراطية المعطوبة".
تبقى أمريكا مخالفة لما يحدث في عديد من الديمقراطيات، حيث تتم ملاحقة الرؤساء بعد سقوط الحصانة الرئاسية عنهم. فالأبحاث والتقارير تفيد بأن 75 دولة في العالم شهدت محاكمة وسجن رؤساء دول وحكومات، خلال العقدين الماضيين فقط، بتهم مختلفة تراوح بين الفساد واستغلال النفوذ والعنصرية وانتهاك القانون حتى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
ففي فرنسا أدين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في 2021، بسبب محاولته رشوة قاض. بذلك يكون ثاني رئيس يدان بعد مغادرته قصر الإليزيه، بعد إدانة جاك شيراك، في 2011، باختلاس أموال عامة. وفي إيطاليا أدين رئيس الوزراء سيلفيو بيرلسكوني، أكثر من مرة، كانت آخرها ثلاثة أعوام، بتهم شتى من فساد واحتيال وتهرب ضريبي.
وتبقى كوريا الجنوبية من أكثر الدول ملاحقة لرؤسائها، فعلى مدار ثلاثة عقود أدين خمسة رؤساء، ضمن موجة ملاحقات سياسية بلغت ذروتها في محاكمة الرئيسة بارك جن هي، في 2018، بـ20 عاما سجنا نافدة، لكنها نالت عفوا نهاية 2021. وبعد فترة وجيزة أدين سلفها لي ميونج باك، بتهم فساد قبل أن يتم العفو عنه بدوره العام الماضي.
وقضى لولا دا سيلفا رئيس البرازيل ثلاثة أعوام في السجن، قبل عودته إلى رئاسة البلد العام الماضي. على غرار الهندية أنديرا غاندي، والباكستانية بنظير بوتو اللتين خرجتا من السجن وعادتا إلى منصب رئيس الوزراء. ما يطرح التساؤل حول إمكانية تحول السجن إلى أداة لوأد المنافسين وإبعادهم من الساحة السياسية، خاصة إذا كانت القواعد الديمقراطية في البلد فتية، ما يجعلها قابلة للتطويع خدمة لمصالح الخصوم والمناوئين.

الأكثر قراءة