القوى الكبرى في عالم متعدد الأقطاب .. سلام طويل أم صدام حتمي؟
دعا الرئيس الصيني شي جين بينج أخيرا، جيش بلاده إلى التركيز على الاستعداد للقتال الحقيقي، كما بدأت روسيا في تنفيذ المرسوم الذي وقعه الرئيس فلاديمير بوتين بشأن التجنيد الإجباري للآلاف من الشباب خلال فصل الربيع، لتعزيز قوام جيشها، وتغيير مجرى المعارك في أوكرانيا.
كما شهد إعلان انضمام فنلندا رسميا إلى حلف شمال الأطلسي، رد موسكو بأن الاتحاد الروسي سيضطر إلى اتخاذ إجراءات انتقامية سواء ذات طبيعة عسكرية تقنية أو غيرها، من أجل وقف التهديدات للأمن القومي الروسي، التي تنشأ فيما يتعلق بانضمام هلسنكي إلى حلف الشمال الأطلسي "الناتو".
سادت اعتقادات متفائلة أوساط بعض المراقبين بأن التنافس بين القوى الكبرى، ومن ثم نشوب حرب عالمية أصبح من مخلفات الماضي، ومنذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن، لم تقاتل قوتان رئيستان بعضهما بعضا بشكل علني، وهي فترة زمنية غير مسبوقة يشار إليها في الأغلب باسم "سلام القوى الكبرى أو السلام الطويل"، إلا أنه منذ 2008، أصبحت حدة المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكبرى المسلحة نوويا - الولايات المتحدة، والصين، والهند، وروسيا - متزايدة بشكل واضح في مختلف المجالات وعبر عدة مناطق من العالم.
العلاقة الأوروبية الأمريكية
أشارت استراتيجية الأمن القومي الرسمية للولايات المتحدة للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة إلى أن "خطر الصراع بين القوى الكبرى آخذ في الازدياد"، خصوصا بعد الصراع الروسي الأوكراني في شباط (فبراير) 2022، إضافة إلى الإجراءات العدائية المتزايدة من جانب الصين تجاه تايوان، حيث أصبحت إمكانية حدوث صدام بين القوى الكبرى أمرا واردا للغاية.
أخذت العلاقة الأمريكية الأوروبية شكلا جديدا بعد الحقبة الرئاسية للجمهوري دونالد ترمب، الذي اتهم بأنه سعى إلى تدمير إرث من العمل المشترك الذي جمع بلاده بالاتحاد الأوروبي، إذ نقل ترمب أمريكا من حليفة للأوروبيين إلى خصم لهم، لدرجة أن هناك من يقول، ترمب لا يحمل شعار أمريكا أولا.. بل المال أولا.
من جهة أخرى، تعيش أوروبا كابوس أزمة الطاقة كلما اقترب الخريف، حيث يزداد التوتر في أوساط الحكومات الأوروبية، بسبب أزمة الغاز الناتجة عن إيقاف روسيا ضخ غازها نحو أوروبا بشكل كامل ونهائي، وسرعان ما تتخذ روسيا قرارها بهذا الشأن حتى يتم توجيه الأنظار نحو مخزون أوروبا من الغاز الذي ستواجه به قساوة الخريف والشتاء من كل عام طالما استمرت الأزمة.
شكل التنصل الأمريكي الأوروبي من الوعود المقطوعة للدولة الأوكرانية خيبة، بعد التخلي عنها وحيدة أمام روسيا، حيث سبقت فترة ما قبل الحرب وعود واشنطن ودول الناتو، بضم كييف إلى الحلف والدفاع عنها، لكن لم يتم ضمها، وكان هذا التخلي بمنزلة درس لدول الاتحاد الأوروبي بأنه لا يوجد من سيدافع عنها، ما دفع الجيش الألماني إلى ضخ عشرات المليارات لتمكين قدراته العسكرية بالسلاح والمعدات، التي تجعله قادرا على حماية بلاده في حالة وقوع هجوم من جهة معادية.
الشرق الأوسط
في مطلع 2011، طرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما مبادرة مراجعة الاستراتيجية العسكرية بعد أن طلب من البنتاجون بدء التخطيط لتخفيضات كبيرة في ميزانية الدفاع، وهدفت الاستراتيجية إلى التعرف على الأولويات الأمريكية وتوجيه الإنفاق الدفاعي مع بدء تقليص حجم الجيش.
ثم اتفق أوباما مع الكونجرس في آب (أغسطس) 2011، على تقليص الإنفاق المتوقع على الأمن القومي بأكثر من 450 مليار دولار في الأعوام العشرة المقبلة، وفي أوائل كانون الثاني (يناير) 2012، كشف أوباما عن وثيقة الاستراتيجية الجديدة للجيش الأمريكي، التي تدعو إلى وجود عسكري أمريكي أكبر في آسيا، وتقليص حجم القوات في أوروبا والشرق الأوسط، ومثلت هذه الاستراتيجية تحولا نوعيا في أولويات الاهتمام الأمريكية التقليدية حيال الحلفاء الأطلسيين في أوروبا والخليج، وقد تقرر خفض عدد القوات البرية من 565 ألف إلى 520 ألف جندي عامل بعد 2015.
وتحت شعار آسيا أولا ألقى بانيتا وزير الدفاع الأمريكي في الثاني من حزيران (يونيو) 2011، خلال الدورة الـ11 من حوار شانغريلاه كلمة بعنوان، "أمريكا وإعادة التوازن في آسيا والمحيط الهادي"، تحدث فيها عن كيفية دفع الاستراتيجية العسكرية الجديدة "إعادة التوازن"، لم تعد ترى واشنطن بأن أوروبا والشرق الأوسط مركز ثقلها الاستراتيجي، وأن آسيا قد حلت مكانها، والتركيز على تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في آسيا والمحيط.
"العلاقة طويلة الأمد والتاريخية" لم تثن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن التوعد لحلفاء بلاده في مختلف دول العالم خصوصا من جمعتهم علاقة جيدة بالإدارة التي سبقته، ما دفع دول عدة من المنطقة إلى وضع قواعد جديدة لضبط العلاقة، مع واشنطن خصوصا بعد الانسحاب الأمريكي من العراق وأفغانستان، وترك الحكم لجماعة طالبان صاحبة التصنيف الإرهابي في القوائم الأمريكية.
فصل جديد
رمانة الميزان في العلاقات الدولية كانت من العاصمة السعودية الرياض، التي كتبت منها القمم الصينية الثلاث، أواخر العام الماضي، تاريخا جديدا أكثر حيوية ومنفعة للجانبين، التي أسست مرحلة تاريخية جديدة مع الصين للتعاون والتنمية، وبداية لمسيرة تعميق العلاقات في جميع المجالات، لتنسيق وجهات النظر حيال القضايا الإقليمية والدولية.
هذه القمم فتحت المجال أمام عودة جريان المياه في العلاقات الإقليمية، خصوصا بين الرياض وطهران، كما ستشهد المرحلة المقبلة افتتاح سفارات السعودية وإيران في عواصم كلا البلدين بعد الوساطة الصينية، لتحقيق الأمان والاستقرار في المنطقة، بعد ترتيب أوراقها في كل من اليمن، وسورية، والعراق، ولبنان، ليصبح أمر المنطقة في يد أهلها دون الحاجة إلى التدخلات الخارجية، على غرار ما كانت تقوم به واشنطن سابقا في المنطقة.
التقارب السعودي الصيني من جهة والتقارب السعودي الروسي من جهة أخرى، انعكس على تقويم العلاقة مع طهران، ليكون الانعكاس الأهم فيما بعد عودة الدولة السورية إلى الحاضنة العربية، بعد مؤشرات انفراجة في الأزمة بزيارة الرئيس السوري إلى الإمارات، وزيارة وزير الخارجية السوري إلى جدة.
كما تشكل الودائع السعودية في البنك المركزي التركي دلالة كبيرة على عمق العلاقة بين البلدين الأهم في المنطقة، خصوصا أن تركيا أحد أهم الاقتصادات في العالم، ودولة صناعية صاعدة بقوة، ما يمكن الرياض من ضبط بوصلة المنطقة الاقتصادية للنهوض بمستقبل المرحلة المقبلة، في ظل حالة التدهور الأوروبي في مختلف المجالات.
البقاء المضمون
تكمن رهانات التعايش في جوهر حسابات المواجهة الكبرى بين القوى النووية في العالم، حيث شكل التقارب الإقليمي في مناطق مختلفة من العالم ركودا على صعيد الصراعات، ما شرع الأبواب لصناعة الفرص، إلا أن المواجهة واحدة من أشد المخاطر التي يواجهها العالم اليوم، فهي ليست مجرد حرب بين دولتين، وإنما تمتد آثارها إلى أغلبية دول العالم، إن لم يكن كله.
إيجاد استراتيجية بديلة لتقليل مخاطر صراع القوى الكبرى يجب أن يبدأ بقبول أن الأمن القومي للولايات المتحدة وبقاءها في مواجهة هذه القوى والتهديدات الوجودية الأخرى للبشرية لا يمكن تحقيقه بمفردها.
كما يجب عليها أن تعزز التعايش المشترك باعتباره الشرط الموضوعي، الذي يجب أن تطمح القوى الكبرى إلى تحقيقه والحفاظ عليه، ولتحقيقه يتطلب إيجاد التعايش المشترك بأن تتبنى كل قوة عظمى عددا من الضمانات المتبادلة وضبط النفس المتبادل، الذي يمكن وصفه بأنه "بقاء مضمون متبادل".
ولضمان البقاء دون حرب عالمية جديدة، حملت زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو رسالة للولايات المتحدة، مفادها رفض الأحادية القطبية الأمريكية، إحباط جهود عزل موسكو، والجلوس على طاولة الحوار لتسوية الحرب الروسية الأوكرانية، وتقديم الضمانات الغربية لموسكو بعدم التوسع الغربي، إلا أن هذه النقاط تبقى في تصنيف الأمنيات، حيث تبحث موسكو خيارات الرد على ضم فنلندا لحلف الناتو، وتتزود كييف بالدبابات الأمريكية من كندا وألمانيا وغيرها من الدول الغربية.