العراقي جواد .. قصة حزينة لفاتورة طويلة من النزاعات المسلحة
أخيرا جاء ربيع 2003، لم يكن جواد ينتظره شوقا للتمتع بنسمات الهواء الرطبة، أو حتى ابتهاجا بانتهاء الشتاء القارس بنسبة برودة مرتفعة 20 في المائة عما سبقه، ولكن لأن هذا يعني أنه بعد عناء تمكن من جمع مبلغ من المال لم يحدد بعد وجهة صرفه، تجديد المنزل أم شراء سيارة ترحم أولاده من المواصلات العامة، وفي الليلة نفسها التي ظل يقارن بين الخيارات، كانت القوات الأمريكية حسمت مصيره في عملية عسكرية كان لها آثارها الكارثية في بلاده، وفي جواد نفسه الذي بات مطالبا أن يجد منزلا أيا كانت حالته.
ما عاشه المواطن العراقي جواد في 2003، صورة مصغرة لما يعيشه العالم بسبب الصراعات العسكرية، فكلما حلت فترة من الهدوء واستطاعت الدول زيادة إنتاجها ونموها الاقتصادي، يأتي نزاع مسلح في مكان ما يهدم كل ذلك، وبدلا من أن توجه الدول ملياراتها إلى تحسين جودة حياة الناس، توجهها إلى إنقاذهم من الموت وإعمار بيوتهم وتأمين رعايتهم الطبية، وهكذا دواليك للدرجة التي دفعت المفكر الأمريكي الشهير هنري كيسنجر لوصف الصراعات المسلحة بأنها عدو التقدم الأول عبر التاريخ.
الآلة التي دمرت العراق وجعلته في حاجة إلى 88 مليار دولار لإعادته كما كان، خاصة بعد اجتياحه من قبل تنظيم داعش الإرهابي في 2013، ربما كان يمكن إيقافها، ففي النهاية هناك بلد واحد مأزوم ويمكن بتكاتف الدول والمؤسسات الدولية إنقاذه، لكن تلك الحسبة تصلح لما قبل 2011، العام الذي اجتاحت فيه عدة دول عربية بعض التقلبات السياسية التي نتج عن بعضها نزاعات عسكرية مسلحة مثلما حدث في سورية وليبيا.
فبعد عقد من الزمان، أي في 2021، وبجانب موجات النازحين وملايين البشر التي راحت ضحية، وصلت فاتورة الإعمار في سورية وحدها بحسب تقدير المبعوث الرئاسي الروسي إلكسندر لافرنتييف إلى 800 مليار دولار، أما الجارة الليبية التي تقاسمتها فصائل مسلحة أيضا، فتحتاج هي الأخرى إلى 111 مليار دولار، وذلك بحسب تقديرات 2021 أيضا.
تبدأ الحروب دوما بعد فترة من الازدهار والنمو العالمي، تلك القاعدة التي استقرت في الأذهان خلال القرن الـ20، تعرضت للكسر مع الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في 24 شباط (فبراير) 2022، فقبل هذا النزاع عاشت البشرية عامين من الاختباء والعزل بسبب فيروس كورونا، ولم يكد يصل العلماء إلى مصل يخفف الآلام ويعيد الآلات إلى الدوران مرة أخرى، حتى جاءت الحرب بثقلها.
وبحسب بنك التنمية الآسيوي، فإن الاقتصاد العالمي خسر في 2021 أي العام الذي سبق الحرب الأوكرانية مباشرة 8.8 تريليون دولار بسبب إغلاق المصانع وتوقف سلاسل الإمداد والتوريد، وكان نصيب القارة الصفراء خسائر بنسبة 30 في المائة حينها، وعولت وقتها جميع التقارير على 2022 كطوق نجاة خاصة مع تحصين نسبة كبيرة من البشر ضد الوباء وإمكانية حصاره، قبل أن تنطلق رصاصات روسيا وأوكرانيا لتتفاقم الخسائر من جديد.
فخلال عام واحد من الحرب، قدر البنك الدولي تكلفة إعمار أوكرانيا حتى الآن بـ411 مليار دولار على مدى العقد المقبل، مشيرا إلى أن تكلفة إزالة أنقاض الحرب فقط تصل إلى خمسة مليارات دولار، فهناك أكثر من مؤسسة من كل خمس مؤسسات تضررت، وفقدت 650 سيارة إسعاف، ودمر ما يقرب من مليوني منزل، أما الكارثة الأكبر فإن الحرب تسببت في خسائر اقتصادية عالمية قدرت بتريليون دولار.
تلك الفواتير ليست حصرا قدر أنها مجرد أمثلة بعضها قابل للزيادة، إذ إن هناك صراعات مستمرة، أما من يسدد الفواتير فهي دول أخرى لم تشارك في الصراعات بأي شكل، ولكن لأنها حملت على عاتقها رسالة السلام والإنسانية وتوفير كل ما تستطيع توفيره من أجل حياة كريمة تليق بالإنسان بصرف النظر عن جنسيته وانتمائه، وبالأرقام تأتي السعودية في مقدمة تلك الدول، فالمملكة خلال تاريخها حتى 2019 كانت قيمة ما قدمته 86 مليار دولار لـ81 دولة حول العالم، وفق تصريحات الدكتور عبدالله الربيعة، المستشار في الديوان الملكي المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، هذا إلى جانب استضافة 12 مليون شخص من جنسيات متنوعة على أراضيها.
وفي 2021 تصدرت المملكة المرتبة الثالثة عالميا من حيث الدول الكبرى المانحة للمساعدات الإنسانية بحسب منصة التتبع المالي التابعة للأمم المتحدة، وبالتفصيل أكثر، ففي 2018 أعلنت المملكة تخصيص مليار ونصف المليار دولار من أجل إعادة إعمار العراق المنهك من الفصائل الإرهابية التي احتلت جزءا كبيرا من أراضيه، أما أوكرانيا فكان نصيبها أيضا مساعدات إنسانية أعلنت عنها المملكة بقيمة 400 مليون دولار في 2021، فضلا عن اليمن التي وصلت قيمة المساعدات إليه 17.3 مليار دولار، كانت سببا في 1556 مشروعا.
ورغم أن العالم لم يفق بعد من الحرب الأوكرانية التي ما زالت تستنزف الموارد، لكنه فوجئ بنزاع مسلح جديد يظهر هذه المرة في القارة السمراء، وتحديدا السودان، وهو نزاع تسبب في أول أسبوعين فقط بحسب الأمم المتحدة في نزوح 400 ألف سوداني وخراب يحتاج إلى 1.5 مليار دولار، وكالعادة سارعت المملكة إلى المساعدة وتمكنت من إجلاء نحو ثمانية آلاف شخص حتى الآن، ينتمون إلى 110 جنسيات موفرة لهم الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية التي يحتاجون إليها، والسؤال الآن هل تتوقف تلك النزاعات ليعيش العالم في سلام، وتتجه السفينة السعودية "أمانة" لتمارس عملها التجاري بدلا من نجدة الضحايا على مدار 73 عاما بداية من إنقاذ ضحايا فيضانات البنجاب 1950، ووصولا إلى إجلاء السودانيين في 2023.