النفوذ الاقتصادي بين دول بريكس ومجموعة السبع

النفوذ الاقتصادي بين دول بريكس ومجموعة السبع
النفوذ الاقتصادي بين دول بريكس ومجموعة السبع

في 1996 كان لدي الصين تكتل مع أربع دول من بينها روسيا في مجموعة عرفت بمجموعة شنغهاي الخماسية، وكان عبارة عن تكتل عسكري هدفه تأمين الحدود، وثم في 2001 تغير اسم التكتل إلى منظمة شنغهاي للتعاون وتحول من مجرد التعاون العسكري إلى التعاون في عديد من المجالات، الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ولاحقا انضمت الهند وباكستان في 2017 ومن ثم إيران في 2021.
نما هذا التكتل القديم وتغيرت عضويته قليلا وأصبح الآن يعرف بتكتل "بريكس" وهو تكتل اقتصادي يضم خمس دول هي الصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل، ويأتي الاسم من الأحرف الأولى لأسماء هذه الدول الخمس، BRICS، حيث إن أول من استخدم المصطلح كان جيم أويل، كبير الخبراء الاقتصاديين في "جولدمان ساكس"، بسبب تميز هذه الدول في سرعة نموها الاقتصادي بشكل أسرع من المتوسط العالمي.
وفقا للإعلان الأول للتكتل، كانت الأهداف تحوم حول الإصلاح الاقتصادي العالمي من خلال إصلاح المؤسسات المالية الدولية، والعمل على عدة قضايا من بينها الطاقة والأمن الغذائي والعلوم والتعليم، ورغم أن إعلان التكتل لم يشر بشكل مباشر إلى مواجهة الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة وشركائها وكسر هيمنة الدولار حينها، إلا أن الإعلان دعا بالفعل إلى إيجاد نظام نقدي دولي أكثر تنوعا.
الاكتفاء الذاتي الزراعي
رغم امتلاك دول بريكس مساحة إجمالية كبيرة تعادل 30 في المائة من مساحة العالم، تشمل 12.6 مليون كيلو متر مربع من الأراضي الزراعية، أي ما يعادل ضعف ما تمتلكه مجموعة السبع، إلا إن ضخامة الكتلة البشرية البالغة 3.2 مليار نسمة لدول بريكس، نحو خمسة أضعاف سكان مجموعة السبع، أدى إلى خفض حصة الفرد الزراعية إلى ثلثي المتوسط العالمي، وإلى نصف ما يحصل عليه الفرد في مجموعة السبع. لذا فإن مجموعة السبع تتفوق على بريكس في تحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي من خلال كل من كندا والولايات المتحدة اللتين لديهما القدرة على توفير الاحتياجات الزراعية لمجموعة السبع. على سبيل المثال صدرت الولايات المتحدة بمفردها 20.8 في المائة من إجمالي المنتجات الزراعية التي استوردتها اليابان في 2022 بقيمة إجمالية بلغت 70 مليار دولار.
إلى وقت قريب كانت الولايات المتحدة أكبر مورد للمنتجات الزراعية للصين، ولكن بعد التطورات الأخيرة على مستوى العلاقات التجارية بين البلدين، بدأت الصين في تنويع مصادر وارداتها، وبالفعل حلت البرازيل مكان الولايات المتحدة لتصبح أكبر مورد زراعي للصين في 2021 بنسبة 20 في المائة من الواردات، بقيمة 41 مليار دولار، في حين أن التعاون التجاري الزراعي مع روسيا نما 30 في المائة خلال 2022.
نمو في اقتصاد بريكس وتفوق نصيب الفرد في مجموعة السبع
رغم امتلاك دول بريكس 26.3 في المائة من حجم الناتج العالمي خلال العام الماضي، إلا أن مجموعة السبع لا تزال تستحوذ على الحصة الأكبر بنسبة 43.6 في المائة من الناتج العالمي، وفي حال الأخذ بطريقة احتساب الناتج المحلي بحسب القوة الشرائية، فإن مجموع الناتج المحلي لدول بريكس يتجاوز 31 من المائة من الناتج العالمي. وبالمقياس ذاته يكون حجم الاقتصادي الصيني تجاوز الاقتصاد الأمريكي منذ 2015.
وفي مقياس نصيب الفرد من الناتج نجد أن مجموعة السبع تتمتع بمتوسط يعادل 4.5 أضعاف المتوسط العالمي، وفي ذلك فارق كبير عن تكتل بريكس الذي يأتي نصيب الفرد فيه إلى أقل من ثلثي المتوسط العالمي، بسبب ضخامة عدد السكان في الصين والهند. وعلى الرغم من التباين الكبير في هذا الجانب إلا أن ضخامة التكتل البشري لهاتين الدولتين قد يكون الميزة الكامنة المنتظرة لرفع القدرات الاقتصادية للدولتين.
نما اقتصاد بريكس خلال آخر عشرة أعوام بمعدل 70 في المائة، وذلك ثلاثة أضعاف النمو الذي حققته مجموعة السبع خلال الفترة ذاتها، ما يعني أن مجموع الناتج المحلي الإجمالي لـدول بريكس قد يتجاوز نظيره في مجموعة السبع في أقل من عقدين حال استمر نموه على الوتيرة ذاتها.
الميزان التجاري وقوة ميزان المدفوعات لدى بريكس
تتمتع دول بريكس بميزان تجاري قوي، فلدى جميع الدول عدا الهند فائض كبير يتجاوز 700 مليار دولار في مجمله، بالمقابل ورغم الحجم التجاري الكبير لدول مجموعة السبع الصناعية، والذي يعادل ثلث حجم التجارة العالمية، إلا أن هناك عجزا تجاريا بلغ في 2021 نحو 875 مليار دولار.
دفع فائض الميزان التجاري دول بريكس إلى تحقيق فائض في الحساب الجاري بقيمة 394 مليار دولار في 2021، بعكس دول السبع التي لديها عجز بقيمة 362 مليار دولار، ولفائض الحساب الجاري نقاط إيجابية من بينها ما هو مستغل بشكل فعلي وهو تكوين احتياطي نقدي، حيث تمتلك مجموعة بريكس احتياطيا نقديا وذهبا يتخطى 5.1 تريليون دولار، ويعادل ذلك نحو ثلث الاحتياطيات العالمية من النقد والذهب البالغ 16 تريليون دولار، ويغطي هذا الاحتياطي الكبير ميزان المدفوعات لدول بريكس لفترة تزيد على عام كامل، وبالمقابل لن تستطيع دول السبع تغطية أكثر من أربعة أشهر لوارداتها باحتياطي أقل من 3.2 تريليون دولار.
الصين المصنع وروسيا الطاقة والبرازيل التربة
ميزة أخرى تتمتع بها دول بريكس هي قدرتها على سد الاحتياجات التجارية لبعضها بعضا عند الضرورة، فعلى سبيل المثال لدى الصين عجز تجاري في المنتجات الزراعية بنسبة 7.5 في المائة في حين أن الفائض من هذه السلع لدى البرازيل يعادل 37 في المائة، كذلك لدى الصين والهند عجز تجاري في منتجات الطاقة يتجاوز 23 في المائة، في حين أن دول بريكس الأخرى تتمتع بفائض يصل إلى 48 في المائة، وهكذا، ولذا يقال إنه من الممكن للصين والهند أن يكونا المصنع وروسيا تكون مصدر الطاقة والبرازيل تقدم التربة لهذا التكتل في المستقبل.
بالمقارنة ورغم توافر القدرة لسد الاحتياجات الزراعية، إلا أن دول مجموعة السبع تعاني عجزا تجاريا في منتجات الطاقة والمنتجات الصناعية، حيث لا يلبي الفائض من الطاقة في كل من الولايات المتحدة وكندا احتياجات شركائهما، وقد ثبتت صحة ذلك أثناء الحرب الروسية الأوكرانية وما نتج عنه من نقص في إمدادات الطاقة للدول الأوروبية، وفي الوقت نفسه لا تلبي الدول الأوروبية إضافة إلى اليابان احتياجات الولايات المتحدة وكندا اللتين تعانيان عجزا تجاريا في الجانب الصناعي، وذلك بسبب القوة التنافسية للمنتجات الصينية في أمريكا الشمالية مقارنة بالمنتجات الأوروبية واليابانية.
السلع الاستراتيجية تدعم بريكس في مواجهة التضخم
لدى دول بريكس قدرة أفضل على مواجهة التضخم مقارنة بـمجموعة السبع، فبنهاية 2021 كان متوسط التضخم لدى بريكس 5.14 في المائة، وعلى الرغم من أحداث 2022 إلا أن متوسط التضخم تراجع في المجموعة إلى 4.32 في المائة. بالمقابل عانت مجموعة السبع بشكل كبير التضخم، فمن متوسط 3.4 بنهاية 2021 وصلت نسبة التضخم إلى 8.8 في المائة في 2022، ويعود السبب الأساس إلى امتلاك دول بريكس سلة متنوعة من السلع الأساسية كالسلع الزراعية والطاقة، التي لها تأثير كبير في مستويات التضخم. كذلك تتمتع دول بريكس بحسابات جارية متينة، ما يجعلها قادرة على تحمل صدمات أسعار الصرف العالمية، الشيء الذي تفتقده دول السبع، سواء على مستوى العجز في الميزان التجاري أو نتيجة عدم توافر منتجات الطاقة بشكل كاف، وبالتالي تأثرها محليا بالأحداث العالمية.
انخفاض مديونية دول بريكس فرصة لدعم النمو المستقبلي
تتمتع دول بريكس بمستوى ديون خارجية وحكومية منخفضة كثيرا مقارنة بالمستويات العالمية ومقارنة بمجموعة السبع، فعلى الرغم من كون دول بريكس تمثل أكثر من ربع الناتج المحلي العالمي إلا أن نصيبها من الديون الخارجية أقل من 1.5 في المائة، الأمر الذي يمنح هذه الدول مساحة أكبر لدعم اقتصاداتها في المستقبل، وذلك بعكس دول السبع التي لديها التزامات فاقت مستويات نواتجها المحلية.
ومع الأزمة الاقتصادية التي مر بها العالم خلال الأعوام الأخيرة ومحاولة الحكومات دعم قطاعات الاقتصاد كقطاع الطيران والسياحة والفنادق ودعم المواطنين من خلال التحفيز الاقتصادي بتريليونات الدولارات خلال أزمة كورونا، ما أدى في نهاية المطاف لارتفاعات قياسية في مستويات الدين العام، منها الديون الأمريكية التي ارتفعت إلى 31.4 تريليون دولار، ما أوقعها في شكوك حول قدرتها على سداد ديونها، وحد من قدرتها على رفع سقف الدين العام لتتمكن من القيام بمزيد من الاقتراض.
عشرات المعادن الأساسية والاكتفاء الذاتي من الطاقة
تمتلك دول بريكس أيضا نسبة مرتفعة من إنتاج عديد من المعادن، على سبيل المثال تنتج المجموعة 48 في المائة من الحديد على مستوى العالم، مقابل 4 في المائة لدول السبع، و71 في المائة من الألمنيوم، و16 في المائة من الليثيوم، وهو المعدن المستخدم في البطاريات الكهربائية التي تقوم عليها عديد من صناعات السيارات والهواتف المحمولة وأجهزة الحاسوب. كما أن موارد دول بريكس من المعادن الأخرى أوجد لديها تفوق كبير عن مجموعة السبع أو أي دول أخرى في العالم، ما يعطيها قوة في مجال التصنيع والتكنولوجيا في الأعوام المقبلة.
من جهة أخرى تتميز دول بريكس بحصولها على ربع احتياطي العالم من الغاز، ولديها فائض إنتاج منه يعادل 50 مليار متر مكعب، ولكن على الرغم من امتلاكها نحو 8.7 في المائة من احتياطيات النفط العالمية إلا أن مستوى الإنتاج لا يزال أدنى من استهلاك التكتل بأكثر من 2.4 مليار برميل سنويا، بسبب الشهية الكبيرة للطاقة من قبل كل من الصين والهند، وهذا في حد ذاته يعد فرصة ثمينة لروسيا لتسويق منتجاتها النفطية لدول التكتل.
الحد من نفوذ الدولار وليس إضعافه
دول بريكس لا زالت تعتمد على الدولار الأمريكي وتحتاج إليه في تجارتها الخارجية، ولكن في الوقت نفسه هي لديها خطط مدروسة للحد من هيمنة الدولار على المديين المتوسط والبعيد، وتشارك دول أخرى كثيرة حول العالم هذا التوجه للسيطرة على الدولار، نتيجة إلى ما ينظر إليه على أنه سوء استخدام للسياسة النقدية من قبل الولايات المتحدة، كاستخدامها في بعض الأحيان كأداة لفرض عقوبات اقتصادية هنا وهناك.
لذا فإن دول بريكس تعمل على قدم وساق في عدة مبادرات بينها ما أعلنه الرئيس الروسي خلال قمة بريكس الماضية، عن سعي التكتل إلى إنشاء عملة احتياطية عالمية جديدة مدعومة باقتصاد بريكس، والغرض الأساس من هذه العملة ليس لخفض أو رفع قيمة عملات دول بريكس، لما قد يجلبه ذلك من أضرار اقتصادية عكسية، بل إن الهدف، بحسب بريكس، حماية المصالح التجارية الدولية. فمثلا التأثير الكبير للغرب في نظام سويفت المالي العالمي وحظر إيران منه في 2012 وحظر روسيا منه في 2022، وما نتج عن ذلك من خسائر مالية كبيرة وانخفاض في عوائد النفط لهذه الدول، إلى جانب حظر عديد من البنوك الروسية من التعامل بالنظام المالي العالمي، أدى إلى إبطاء حركة التجارة وزيادة تكلفة المعاملات، وفقدان روسيا نصف احتياطاتها من الذهب والعملات الأجنبية. ونتيجة لهذه العوامل والتطورات بدأت عديد من الدول التفكير بشكل جدي في الخروج عن فلك الدولار والاستعاضة بنظام مالي جديد.
نظام مالي عالمي جديد خارج إطار الغرب
ليست هذه المرة الأولى التي تحاول فيها دول بريكس صناعة نظام مالي عالمي جديد بعيدا عن الهيمنة الأمريكية، ففي تموز (يوليو) 2014 اتفقت دول بريكس على إطلاق صندوق احتياطي نقدي فيما بينها لمواجهة أي مشكلات محتملة في السيولة الدولارية، وذلك بقيمة 100 مليار دولار. ويمكن لهذا الصندوق أن يستخدم في دعم العملة الموحدة المزمع إصدارها وتحقيق استقرار نسبي لعملات بعض دول بريكس التي لديها عجز في الحساب الجاري مثل الهند والبرازيل، إضافة إلى تحقيق السيولة السريعة اللازمة لأعضاء التكتل على المستوى الدولي.
قبل إنشاء الصندوق النقدي الاحتياطي أنشأت بريكس في 2012 بنك التنمية برأس مال مصرح 100 مليار دولار، بهدف تعزيز البنية التحتية والاستدامة في الدول الأعضاء، بعيدا عن قيود البنوك العالمية والمؤسسات الأخرى، وبالفعل استفادت الدول الأعضاء خلال سبعة أعوام من تمويل 112 مشروعا في دولهم من خلال هذا البنك، في حين أنه يستهدف تمويل مشاريع أخرى خلال الأعوام الخمسة المنتهية في 2026 بقيمة 30 مليار دولار.
هذه المبادرات تدل على السعي الحثيث لدول بريكس للاعتماد أكثر فأكثر على ذاتها لتسهيل نمو اقتصاداتها دون قيود ومعوقات، وذلك باستخدام ما لديها من إمكانات كبيرة وسريعة في نموها وذلك لمواجهة أي تحديات قد تفرض على الأعضاء في المستقبل القريب. الاستقلال المالي والإفلات من أي عقوبات اقتصادية محتملة هو الغاية الأولية للتكتل، في حين أن المرحلة التالية ستكون الانتقال بتكتل بريكس ليصبح مركزا دوليا ذا نفوذ اقتصادي قوي، ويدل على هذا التوجه إتاحة بريكس الفرصة لعدد من الدول للاشتراك في بنك التنمية الجديد، حيث أسهمت مبدئيا كل من مصر والإمارات والأوروجواي بنحو ثلاثة مليارات دولار.
بريكس يدعو دول العالم إلى الانضمام إليه
هذه القوة الاقتصادية التي تنمو باطراد، ولا يزال متوقع لها الاستحواذ على القوة الاقتصادية الأكبر عالميا خلال الأعوام المقبلة، دفعت عديدا من الدول حول العالم لطلب الانضمام إلى عضوية بريكس، من بينها دول مؤثرة كإيران والجزائر والأرجنتين ومصر وتونس وإندونيسيا والإمارات وغيرها.

الأكثر قراءة