هل أوشك عصر الدولار على الأفول؟
تتزايد المخاطر التي تهدد بإسقاط الدولار، ملك العملات، من علياء عرشه، بعد عقود من الهيمنة على النظام الاقتصادي العالمي. واقعة بعد الأخرى، تتعزز مظاهر التآكل البطيء في قيمة الدولار، مع تراجع أعداد الدول الداعمة له كعملة احتياطية في العالم. يعزى ذلك التآكل إلى الزيادة الملحوظة في نسبة التضخم، منذ 2021، بسبب ارتفاع أسعار النفط أولا، ثم تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية ثانيا.
فضلا عن تواتر أحاديث رجال السياسة، في الكواليس وأمام الأشهاد، عن أن الوقت حان للبحث عن عملة عالمية جديدة، بديلا عن العملة الخضراء التي بسطت سطوتها تدريجيا على الاقتصاد العالمي، مستغلة سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية. إذ كانت المشاركة المتأخرة للولايات المتحدة في الحرب، سببا في مراكمة واشنطن احتياطيات مهمة من الذهب، جراء ارتفاع حجم استدانة الحكومات الأوروبية المشاركة في الحرب لديها، قصد سداد قيمة العتاد الحربي.
استغلت الإدارة الأمريكية الوضع، فعملت على تأسيس نظام نقدي دولي لمواجهة الضائقة المالية الناجمة عن الحرب، وتنظيم الاقتصاد العالمي المتضرر، حيث طرحت اتفاقية "بريتن وودز" اعتمادا على الرصيد العالمي من الدولار المتحصل لديها، والبالغ زهاء 25 مليار دولار من أصل 38 مليار دولار، إلى جانب سيطرتها على أكبر احتياطي عالمي من الذهب، عند التوقيع على هذه الاتفاقية.
من باب إحكام السيطرة، أقدمت الولايات المتحدة بمعية سبع دول أوروبية حليفة على إنشاء "مجمع ذهب لندن"، كانت غايته ضخ أو سحب الذهب من الأسواق، بحسب ما يفرضه قانون العرض والطلب، رغبة في التحكم بسعر الذهب مقابل الدولار، حيث حدد سعر الذهب عند معدل 35 دولارا للأوقية الواحدة. خطة لم تدم طويلا، فحرب فيتنام دفعت واشنطن إلى طباعة الدولار لتغطية تكاليف الحرب، ما دفع بالرئيس الفرنسي شارل ديجول إلى الانسحاب من المجمع، الذي لم يصمد طويلا، إذ تقرر إغلاقه نهائيا في 1968، بسبب زيادة الطلب العالمي على الذهب.
لم يؤثر ذلك في مكانة الدولار في النظام المالي العالمي، فقد ظلت العملة الأمريكية سيدة العملات لبقية القرن الماضي. وظل الوضع على هذا الحال، إلى أن تعالت الأصوات للمطالبة بكسر شوكة الدولار، مطلع الألفية الثالثة، بعد انتقاله من مجرد عملة رئيسة في العالم، يراد بتداولها تسهيل وضمان التعامل التجاري، نحو سلاح ناعم تعتمده الولايات المتحدة أداة لمعاقبة أي دولة تقرر شق عصا الطاعة بالتمرد على واشنطن.
وشكل شباط (فبراير) لحظة حاسمة في انحياز عدد من الدول نحو هذا الخيار، حين أقدمت واشنطن مع كبرى العواصم الأوروبية على تجميد أكثر من 300 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية الروسية من قبل الغرب. ما وسع دائرة الشكوك والمخاوف لدى عدد من الدول، بشأن ضمانات التعامل في الدولار خارج البلد.
عملت دول كثيرة، في الأعوام الأخيرة، ولا سميا تلك الواقعة في المعسكر المضاد للولايات المتحدة، على تصريف الأقوال أفعالا على أرض الواقع. فشرع عدد من البنوك المركزية في شراء الذهب، سعيا إلى التقليل من الاعتماد على الدولار في التعاملات البينية. وارتفعت الأصوات داعية إلى البحث عن عملة جديدة، فالشواهد تفيد بما لا يدع مجالا للشك بأن الدولار يعيش فصل الخريف.
تبقى النسب المئوية شاهدا على ذلك، فتراجع حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية من 73 في المائة (2001) إلى 55 في المائة (2021) ثم 47 في المائة (2022)، مع توقعات ببلوغها، أواخر العام المقبل، 30 في المائة فقط، مؤشرات على أن العملة الخضراء تفقد بريقها. وزاد تحرك الدول المكثف، في الآونة الأخيرة، نحو الاستغناء عنها، وقررت كتل صناعية كبرى اعتماد عملات أخرى عوضا عن الدولار في المعاملات الرسمية.
هكذا تتطلع الصين إلى إضعاف الدولار عن طريق جعل اليوان بديلا عنه في صفقات النفط، في ضوء تجارتها مع روسيا بعد الحرب الروسية. وأبدى قائدا البرازيل والأرجنتين استعداهما لإطلاق عملة مشتركة، تعرف باسم sur "الجنوب"، بغرض استخدامها في التعاملات التجارية بين البلدين، في أفق التحول إلى العملة إلى مشروع إقليمي شبيه باليورو. ويتحرك تجمع دول بريكس "البرازيل، الصين، روسيا، الهند، جنوب إفريقيا" نحو التخلص من الدولار في التعاملات التجارية بين أعضاء التكتل الاقتصادي.
شدد الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا على أهمية المسألة في الزيارة التي قادته إلى الصين، حين صرح "في كل ليلة أسائل نفسي لماذا يجب على كل الدول التعامل في تجارتها بالدولار". يذكر أن تفضيل البرازيل التعامل باليوان في تجارته مع الصين، يشكل زلزالا للنظام المالي الأمريكي، لكونه يعني خسارة واشطن أكبر اقتصاد في أمريكيا اللاتينية بقيمة إجمالية تفوق 150 مليار دولار سنويا.
يوشك التخلص من هيمنة الدولار أن يصبح مطلبا عالميا، بعدما طالب بذلك حلفاء واشنطن التقليديون. فعقب عودته من زيارة بكين، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ضرورة تقليص الاعتماد على العملة الخضراء، ففي نظره لا يجب أن تصبح أوروبا تابعة للولايات المتحدة، بل على العكس ينبغي أن تقلل هذه الدول اعتمادها على الدولار الأمريكي خارج الحدود.
مهما حاولت الإدارة الأمريكية التقليل من وقع ما يحدث أمام الإعلام، إلا أن أصوات تفضل الانحياز إلى الحقيقة، على غرار اعتراف وزيرة الخزانة الأمريكية أخيرا حين عدت أن العقوبات الاقتصادية "على روسيا أساسا" تشكل خطرا على هيمنة الدولار، مؤكدة بأن هناك مخاطرة مرتبطة بدور الدولار عند استخدامه عقوبة مالية، لأن ذلك يفضي إلى تقويض هيمنته على المدى الطويل.
يبقى إلغاء الاعتماد على الدولار في الاقتصاد العالمي صورة من صور الصراع، ضد الهيمنة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، فإسقاط هذه العملة يبقى الأداة المثلى لإجبار واشنطن على القبول بنظام عالمي متعدد الأقطاب بدل النظام القائم حاليا. لا يتوقع أن يحدث الأمر في غضون العام أو العامين المقبلين، لكن المؤكد أن التصدع بدأ وانكسار هيمنة الدولار في المستقبل مسألة وقت لا غير.