شنغهاي للتعاون .. هل تكون بديلا شرقيا عن مركزية غربية؟
بدأت الهيئات والمنظمات الدولية خارج إطار الأمم المتحدة تسترعي الانتباه، في الآونة الأخيرة، بعد الفشل الذريع للمؤسسات التابعة لأمريكا أو الأمم المتحددة في إيجاد حلول للمشكلات التي ظهرت على مسرح الأحداث العالمي في الأعوام الأخيرة، أو حتى التحرك لدواعي إنسانية وذلك أضعف الإيمان، كالحرب الروسية الأوكرانية أو النزاع في السودان أو غيرهما من بؤر التوتر. خاصة تلك التي استطاعت فرض نفسها، في خضم الصراع، على الرغم من افتقادها للطابع المؤسساتي الصلب، مع ما يفترضه ذلك من سلطة تمنحها القدرة على الإجبار والإلزام.
تبقى منظمة "شنغهاي للتعاون" واحدة من الهيئات التي لمع بريقها، في غمرة الأحداث المتلاحقة الأخيرة. فبعد أعوام على التأسيس، أواسط 2001، على أساس "خماسي شنغهاي" الذي ظهر، قبل خمسة أعوام، لإنهاء الخلافات الحدودية بين الصين ودول الاتحاد السوفياتي "روسيا وكازاخستان وطاجكستان وقرغيزستان وأوزبكستان"، دخل ميثاقها حيز التنفيذ، في 19 أيلول (سبتمبر) 2003، ثم شهدت أول توسع لها، في 2017، بقبول عضوية كل من الهند وباكستان. ولاحقا منحت أربع دول "إيران وبلاروسيا وأفغانستان ومنغوليا" صفة المراقب، تحضيرا لاستيفاء الشروط اللازمة لمنحها العضوية الكاملة، فضلا عن تصنيف 13 دولة شركاء في الحوار.
بذلك تكون المنظمة أكبر إطار إقليمي في العالم من الناحيتين الجغرافية والسكانية، فالدول المنضوية، بغض النظر عن طبيعة العضوية "كاملة، مراقب، شريك" تحت لواء هذا الاتحاد السياسي والأمني يغطي نحو 60 في المائة من مساحة أوراسيا، فامتدادها من المحيط المتجمد الشمالي والمحيط الهندي في الشرق حتى المحيط الهادي وبحر البلطيق. وفي قائمة الأعضاء أربعة أعضاء ضمن النادي النووي "روسيا، الصين، الهند وباكستان"، فضلا عن تجاوز ساكنة الدول الأعضاء فيها لنصف سكان العالم.
بديل شرقي أم مؤسسة منافسة
أعاد التحاق دفعة جديدة من الدول بالشرق بصفتها شركاء في الحوار إلى منظمة شنغهاي إلى واجهة النقاش العالمي الحديث عن فرص المؤسسة في التحول إلى مؤسسة دولية بديلة عن تلك القائمة حاليا، برعاية من الولايات المتحدة. وعزز الحرص الشديد من جانب الأعضاء في نادي شنغهاي على الاشتغال في تكتلات تجارية وسياسية، بعيدا عن إطار الأمم المتحدة، من إمكانية تحولها إلى مركز جذب جديد لكل الدول الراغبة في الابتعاد عن الهيمنة الأمريكية.
يستند هؤلاء إلى التاريخ لتأكيد طرحهم، وتحديدا سياق تأسيس المنظمة الذي يعود إلى بداية القرن الـ21، بعد الانتهاء من النزاعات الحدودية، كنوع من المعاندة الصينية للسياسة الأمريكية التي تحتكر فوائد العولمة لمصلحتها. ويشكل الأعضاء الكبار في المؤسسة مؤشرا آخر يثبت هذه الفرضية، فالصين وروسيا لا تدخران جهدا من أجل وضع حد للنظام العالمي الحالي، بالسعي الحثيث نحو دعم وتنبي كل ما من شأنه أن يسهم في ولادة نظام عالمي تعددي، يسمح بتوزيع جديد للأدوار على ضوء موازين القوى الجديد في العالم.
صحيح أن رغبة لاعبي الشرق الرئيسين، الصين وروسيا، كانت في البداية تكوين تحالفات آسيوية، بمنزلة درع واقية في العلاقات الجيوبوليتيكية، فالأمن القومي رهين باحتواء الجمهوريات المجاورة في حلف سياسي واقتصادي وأمني، لصد أي طموح عسكري لواشنطن وحلفائها هناك. لكن سرعان ما رفع الأعضاء الكبار في النادي السقف عاليا، بدفع المنظمة دولية نحو لعب دور أكبر لمواجهة النفوذ الغربي في منطقة آسيا، من خلال العمل على تحويلها إلى رافد دولي جديد، يكتسي ثوبا قطبيا ضمن أطر العالم متعدد الأقطاب ومتباين الاتجاهات.
لقد نجحت الصين في استغلال تجمع شنغهاي لتحقيق صعود آمن، بفضل إجراءات بناء الثقة مع دول آسيا الوسطى، فبكين القوة المحافظة الصاعدة في المنطقة، لا تسعى إلى قلب موازين القوى لمصلحة تعزيز نفوذها في محيطها، كما ورد في الأهداف التي جاءت في إعلان تأسيس المنظمة. وشكل انضواء دول لها تقاليد ثقافية وحضارية مختلفة، ومبادئ توجيهية للسياسة الخارجية، ونماذج مختلفة للتنمية الوطنية، واحترام السيادة وتبادل المنافع... عنصر قوة سمح في فترة قصيرة نسبيا بتحويل المنظمة إلى أداة فاعلة ومؤثرة في التعاون متعدد الأطراف.
وفي إشارة إلى الرغبة في تجاوز الهيمنة الغربية على النظام العالمي، صرح يوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية، بأن منظمة شنغهاي للتعاون تقدم بديلا حقيقيا للهياكل والآليات التي تتمحور حول الغرب، ويلتزم جميع أعضاء المنظمة بتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر ديمقراطية وعدلا، ويقوم على المبادئ المعترف بها عالميا.
يرى مراقبون في تزايد طلبات الانضمام إلى هذه المنظمة دليلا على نجاحها فيما تسعى وراءها، وذهب آخرون بعيدا في معرض التأصيل لفكرة البديل الشرقي الذي يمكن أن تقدمه المنظمة للنموذج الغربي في شقيه الاقتصادي "الاتحاد الأوروبي" والعسكري "حلف الناتو". فهل يتوافر لهذه المنظمة ما يكفي من المقومات المساعدة على إعادة هيكلة النظام الدولي؟
عقبات دون نظام عالمي تعددي
بلغة الأرقام يمتلك تجمع شنغهاي للتعاون جميع الدعائم للعمل على تغيير قواعد النظام الدولي، وإعادة هيكلة بنيته بالقضاء على الأحادية القطبية والهيمنة الأمريكية، منذ آخر عقد من القرن الماضي. ويزيد انفتاح المنظمة على المنطقة العربية بحصول دول وازنة مثل، السعودية ومصر والكويت وقطر والإمارات على صفة شريك الحوار، من فرص نجاح مساعي إعادة التوازن إلى المشهد العالمي.
لكن التدقيق في التفاصيل يكشف عن عقبات موضوعية تحول دون تحقيق المنظمة لذلك، بدءا من التباطؤ النسبي في الإيقاع، فهذا التحالف الضخم ظل مغمورا، رغم مضي أزيد من 20 عاما على التأسيس، فلم يظهر على الساحة الدولية، ولم يسمع له صوت إلا بعد الحرب الروسية الأوكرانية. وليس انتهاء بالطبيعة المؤسساتية لمنظمة شنغهاي للتعاون التي يرى البعض مقارنتها بالمجموعة الأوروبية للفحم والطلب (1951)، رغم البون الشاسع بينهما، فهذا النادي السياسي لا يملك إطارا مؤسسيا فاعلا، ولا حديث في المستقبل المنظور عن إخراجه من الطابع التنسيقي الاستشاري نحو صيغ عملية إجرائية أكثر إلزامية.
تغيب وحدة الرؤية على مستوى الأهداف والغايات، فبوصلة بكين وموسكو قائدي المنظمة غير مضبوطة على اتجاه واحد، فبينما تسعى الصين جاهدة إلى استغلال هذا الكيان من أجل الدفع بمشروعها الاقتصادي، ونقصد هنا الحزام والطريق، في هذه الدول بكل سهولة ويسر. تصر روسيا على إيلاء العناية، وبالدرجة الأولى، لكل ما له ارتباط بقضايا الأمن والدفاع.
يتعدى الأمر مجرد اختلاف في التوجهات بين الكبار في المنظمة نحو تضارب في المصالح بين الأعضاء، فالخلافات الثنائية الكثيرة بين الدول في التحالف تخفف من وطأة تهديداته على المعسكر الغربي. نشير مثلا إلى الصراع الوجودي بين الهند وباكستان، وإلى الخلاف الحدودي التاريخي للهند مع الصين. وقبل عامين تقريبا، تجددت الاشتباكات على الحدود بين عضوين في المنظمة "قرغيزستان/ طاجيكستان" أودت بحياة أزيد من 50 شخصا، وتمدد الصراع إلى دول مرشحة للعضوية "أذربيجان وأرمينيا مثلا" والنزاع على إقليم ناغورنو كاراباخ، وهلم جرا من الخلافات التي تنعكس لا محالة على الوحدة والانسجام داخل هياكل المنظمة.
يتوقع مراقبون أن يشكل التحاق السعودية بمنظمة شنغهاي منعطفا في مسار المنظمة ومسيرتها، بالنظر إلى الثقل الذي تمثله المملكة في العالمين العربي والإسلامي، فضلا عن الوزن الاقتصادي للرياض، باعتبارها الدولة العربية والمشرقية الوحيدة في تجمع العشرين. كل ذلك من شأنه أن يجعل مجموعة شنغهاي للتعاون بعد انضمام السعودية غير ما كانت عليه قبل الانضمام، والمقبل من الأيام كفيل بإثبات ذلك.