بريطانيا .. رشاقة دبلوماسية تبحث عن الأمجاد

بريطانيا .. رشاقة دبلوماسية تبحث عن الأمجاد
بريطانيا .. رشاقة دبلوماسية تبحث عن الأمجاد

احتلت بريطانيا المركز الثاني وراء الولايات المتحدة في المؤشر العالمي للقوة الناعمة، القائم على سبعة محددات أساسية،
"الأول، الإعلام، الثاني، التعليم والعلوم، الثالث، الثقافة والتراث، الرابع، العلاقات الدولية، الخامس، الحكامة، السادس، التجارة والاستثمار، والسابع، قيم الشعوب"، متقدمة على دول أكثر استقرارا منها مثل ألمانيا "المركز الثالث" واليابان "المركز الرابع". بذلك تكون قد شرعت في جني ثمار حركتها كقوة رشيقة في الساحة الدولية، منذ الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، سعيا وراء استعادة مجد إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
يذكر أن لندن عمدت إلى مراجعة شاملة لملامح سياستها الخارجية، مع حكومة رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، في إحدى أكبر عمليات تحديث تطول مختلف مفاصل السياسة الخارجية للمملكة "الأمن، الدفاع، التنمية..."، منذ زمن الحرب الباردة. تراوح تلقي الخطة ما بين التأييد المطلق، على اعتبار أن البحث عن المكانة عالميا، أحد دواعي مغادرة النادي الأوروبي، والتحفظ الشديد خوفا من جر البلاد نحو مواجهات وأزمات هي في غنى عنها.
وشكلت التغييرات المتلاحقة على رأس السلطة في لندن، تتويج تشارلز الثالث ملكا للبلاد، فضلا عن وصول ريشي سوناك إلى رئاسة الوزراء، مبررات لقيام الحكومة الحالية بمراجعة وتحيين لهذه الوثيقة، آخذة في الحسبان مختلف التطورات على مسرح الأحداث الدولي، من أجل ضبط وتوجيه بوصلة لندن في مختلف الجهات الأربع للعالم.
بريطانيا .. نوستالجيا أو فيتيورولوجيا
يسعى ريشي سوناك إلى استثمار التغيير في قمة هرم السلطة في البلاد لمصلحته، بالعمل على تقديم بريطانيا جديدة للداخل والخارج معا، بتذكية حضور قوي ومتنام من موقعها كقوة فاعلة ومؤثرة على الصعيد العالمي. لذلك لم يتردد في مراجعة سياسة أسلافه، على ضوء متغيرات الأحداث قاريا ودوليا، بما يتيح للمملكة المتحدة استعادة مكانتها وهيبتها بين الكبار في العالم.
تخلص رئيس الوزراء من عقد الخصام مع بروكسل، بعد حادثة الخروج من الوحدة الأوروبية، فجدد الارتباط بالمجال الأوروبي بإقدامه، في آذار (مارس) الماضي، على زيارة توجت بقمة ثنائية مع باريس، كانت الأولى من نوعها بين البلدين منذ 2018. أعقبتها جولة خارجية للملك تشارلز، بعد التتويج، اقتصرت على برلين بعد إلغاء باريس بسبب توتر الأوضاع الأمنية هناك جراء المظاهرات ضد قانون إصلاح التقاعد.
وفي ارتباط بالقارة العجوز دائما، سجلت بريطانيا حضورا نوعيا في دعم أوكرانيا خلال الحرب، فالمملكة ثاني دولة، بعد الولايات المتحدة، في تقديم المساعدة العسكرية لكييف التي قدرت بمبلغ 2،3 مليار جنيه استرليني. وكانت لندن أول دولة في العالم، كما جاء على لسان سوناك، "تدرب القوات الأوكرانية وأول من قدم أسلحة فتاكة في أوروبا وأول من التزم بإرسال الدبابات". فضلا عن تقديم صواريخ بعيدة المدى، قبل أيام، قصد تعزيز القدرات القتالية للقوات الأوكرانية تحضيرا لمرحلة عسكرية جديدة.
تدرك لندن أن المرور عبر واشنطن أيسر السبل في معركة استعادة المجد، لذلك حرصت على تأكيد متانة وقوة العلاقة الثنائية، فالأرقام تفيد بأن رئيس الوزراء التقى الرئيس الأمريكي أربع مرات خلال أربعة أشهر، ما حدا برئاسة الوزراء إلى التوضيح، في بيان رسمي، أنه "في الأعوام الأخيرة لم يجر أي رئيس وزراء بريطاني اتصالات مستمرة على هذاا النحو مع رئيس الولايات المتحدة". وكانت آخرها زيارة الأسبوع الأول من الشهر الجاري، في السابع والثامن، التي شهدت توقيع "إعلان الأطلسي" الذي يضع معايير جديدة للتعاون الاقتصادي بين الطرفين.
وسعت بريطانيا، على غرار الكبار، إلى تسجيل حضورها في مناطق الصراع والتنافس العالمي، ونقصد تحديدا المحيطين الهندي والهادئ، حيث تسعى لندن إلى ضمان حضور يسمح لها بالوجود إلى جانب بقية المتنافسين "واشنطن، بكين...". فوقعت الشهر الماضي، اتفاقية هيروشيما للتعاون الثنائي في مجال الدفاع والتكنولوجيا مع اليابان، تشمل إعادة نشر مجموعة حاملات طائرات بريطانية في المنطقة. وقبل عامين، نسجت تحالف أوكوس الأمني مع أستراليا والولايات المتحدة.
بريطانيا .. مؤشرات وفرص
منحت الأزمة الأوكرانية فرصة ذهبية لبريطانيا للظهور بقوة في الساحة الدولية، بعد انتكاسة بريكست التي عدها كثيرون بداية نهاية لندن، قبل أن ينتفض البريطانيون مؤكدين أن انفصالهم السياسي عن أوروبا ما هو إلا انتصار لانفصال فرضته الجغرافيا. فكان الحضور الوازن لبريطانيا إلى جانب أوكرانيا، بما في ذلك تدريب عشرة آلاف جندي أوكراني خلال 120 يوما، واستقبال الرئيس فولوديمير زيلينسكي مرتين في لندن، مؤشرات على عودة المملكة إلى واجهة الأحداث العالمية.
ومثلت قرار لندن مراجعة سياستها تجاه بكين مؤشرا آخر، ولا سميا بعد تصريح سوناك بأن "العصر الذهبي" للعلاقات مع الصين قد ولى إلى الأبد، واصفا العلاقات الاقتصادية لبلاده مع الصين بأنها "ساذجة". فالشراكة العميقة بين الصين وروسيا تبقى "مثيرة للقلق" بالنسبة إلى بريطانيا، فضلا عن تزايد طموح الحزب الشيوعي نحو "تشكيل نظام دولي متمركز حول الصين ومناسب لنظامه الاستبدادي". بمثل هذه التصريحات تنصب بريطانيا نفسها ضمن الكبار باعتبارها دولة حامية للديمقراطية في العالم.
داخليا، تمت أكثر من فرصة تعزز مساعي لندن، فالبلاد وبحسب أحدث استطلاع رسمي، وعكس ما يشاع بحاجة إلي يد عاملة فالأرقام تفيد بأن المملكة لديها مليون و83 ألف وظيفة شاغرة. ولا يتوافر سوى 1،2 مرشح لكل وظيفة شاغرة، وهذا نقص مذهل. قبل أن نصل إلى مسألة ملاءمة المهارات، فضلا عن أن عددا من الوظائف محفوفة بالتحديات والصعوبات، ما يجعلها غير جذابة للقوة العاملة المحلية.
في القطاع الزراعي مثلا، يؤكد استطلاع أجراه الاتحاد الوطني للمزارعين أن ما قيمته 22 مليون جنيه استرليني من الفواكه والخضراوات تم إهداره، في النصف الأول 2022 فقط، بسبب النقص الحاد في اليد العاملة بالمجال الفلاحي. الأمر ذاته ينطبق على قطاع الرعاية الصحية، الذي يشهد بدوره خصاصا في اليد العاملة، فحاليا هناك 165 ألف وظيفة شاغرة في القطاع. أما في قطاع الخدمات الصحية الوطنية، فعدد الوظائف الشاغرة بدوام كامل يفوق 130 ألف وظيفة، وهذا يقارب 10 في المائة من القوة العاملة.
تبقى هذه الفرص مؤشرا آخر على قوة ومكانة بريطانيا، فالرغبة في استقطاب عمال مهاجرين دليل على قوة ومكانة الدولة على الصعيد العالمي. فضلا عن كونه معطى يعزز المساعي الخارجية للتمدد والاستحواذ، فتحول البلاد قبلة عالمية مستقطبة لليد العاملة يعطي انطباعا عن قوتها الاقتصادية.
خطوة تلو أخرى تثبت المملكة المتحدة أنها عازمة على السير قدما في طريق العودة إلى مسرح الأحداث العالمي، لا من موقع السلاح والقوة الخشنة مثلما كان الحال زمن الانتداب البريطاني الذي أتاح لها فرصة التمدد في الأركان الأربعة للعالم، وإنما باعتماد القوة الناعمة والدبلوماسية الهادئة، بعيدا عن الصخب والضجيج. فهل تنجح مساعيها في تحقيق ذلك في زمن كثر فيه المتنافسون، فخصوم القرن الـ21 غير إمبراطوريات القرن الـ19، وأدوات الأمس غير معدات اليوم وغدا؟

الأكثر قراءة