تجمع بريكس .. التباين في المواقف السياسية أولى التحديات
شدت الأنظار وسط الأسبوع الماضي، من 22 حتى 24 أغسطس الجاري، إلى مدينة جوهانسبرج في جنوب القارة الإفريقية، لمتابعة أطوار القمة الـ15 لمجموعة بريكس، التي تضم الاقتصادات الناشئة الكبرى، المكونة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، تحت شعار "بريكس وإفريقيا"، ما يظهر انفتاح المجموعة على إفريقيا باعتبارها قارة المستقبل، فضلا عن تناغم ذلك مع التطلع لوضع مفهوم "الجنوب العالمي" على أجندة التحولات الكبرى، التي تهز أركان العالم الأربعة.
يعزز السياق العالمي والموضوعات المطروحة على جدول الأعمال من أهمية هذه الدورة، فروسيا العضو البارز في التجمع حريصة على إثبات فشل المعسكر الغربي في تطويقها، على الرغم من عدم حضور الرئيس فلاديمير بوتين الشخصي، بسبب مذكرة الاعتقال الصادرة بحقه في مارس الماضي من المحكمة الجنائية الدولية. وثبت المجموعة، لأول مرة، في معايير التحاق أعضاء جدد بها، بعد تقديم 22 دولة طلب الانضمام رسميا إلى هذا الكيان الجيوسياسي والاقتصادي البديل.
سعت المجموعة منذ أول اجتماع لها، عام 2009، إلى تذكية التعاون بين الدول الأعضاء مستغلة ثقل المنظمة (اقتصاديا وتجاريا وديموغرافيا وجغرافيا...)، فبحثت تلك الاقتصادات الناشئة حينها عن محاولة لإيجاد "نظام عالمي جديد" بعيدا عن الهيمنة الغربية، بعدما تبين لها بالواضح والملموس أن النظام الحكم العالمي التقليدي معطل وقاصر، وكأنها بذلك تنفذ خلاصات جيم أونييل (Jim O’Neill)، الموظف في بنك جولدمان ساكس، في ورقته المنشورة لدى البنك الاستثماري الأمريكي، عام 2001، حين قدم توقعات حول نمو وتطور الاقتصادات الأربعة، "وتماشيا مع هذه التوقعات، لا بد من إعادة تنظيم منتديات صنع السياسات العالمية، وعلى وجه الخصوص، ينبغي تعديل مجموعة السبع بحيث تضم ممثلين عن مجموعة بريكس".
جذور فكرة بريكس إذن غربية، فهي من بنات أفكار مختبرات جولدمان ساكس الفكرية، قبل أن يتم التخلي عن توجه ضمها إلى نادي السبع الكبار "G7": الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان وفرنسا والمملكة المتحدة، لتصبح تكتلا وازنا للدول الأسرع نموا اقتصاديا في العالم، من شأنه أن يشكل في المستقبل، متى تغلب على المعوقات الداخلية، خطرا على مجموعة الدول الصناعية السبع.
يعد التباين في المواقف السياسية أولى التحديات التي تعيق تحقق حلم بريكس سريعا، فالمدقق في كلمات الزعماء خلال قمة جوهانسبرج يلحظ فروقات واضحة في المضامين، ما يؤثر -لا محالة- في حسم القرارات والتوجهات، فقد بدا الرئيس الصيني، ومعه الرئيس الروسي، في موقع الهجوم ضد الغرب، "مسار التاريخ ستحدده الخيارات التي نتخذها"، مضيفا بنبرة حادة "علينا أن نعزز التعاون الاقتصادي والتجاري والمالي، بما يسهم في التنمية الاقتصادية. تعد التنمية حقا غير قابل للتصرف لجميع الدول، وهي ليست براءة اختراع لحفنة من الدول في الوقت الراهن".
فيما اختار زعماء آخرون (البرازيل والهند وجنوب إفريقيا) تجاهل الغرب بالتركيز على القضايا التي تهم تقدم التجمع، فدعا إلى الإسراع باعتماد عملة موحدة للتحكم أكثر في الاقتصاد، "لكي ينمو الاستثمار، يجب علينا أن نضمن نمو الثقة، والقدرة على التنبؤ والاستقرار القانوني والسياسي والاجتماعي للقطاع الخاص. لذلك، أنا أؤيد تبني عملة موحدة، لا تحل محل عملاتنا الوطنية".
فضلا عن الاختلاف البين في القوة الاقتصادية لدول الأعضاء، فاقتصادات المجموعة متفاوتة الحجم إلى حد كبير، فاقتصاد الصين، على سبيل المثال، أكبر 40 مرة على الأقل من اقتصاد جنوب إفريقيا، الدولة الأكثر تصنيعا وتنوعا في إفريقيا. كما أن مستوى التجارة البينة لا يزال هزيلا جدا، فهو بالكاد يقترب من نسبة 2 في المائة، عكس تكتلات أخرى مثل الاتحاد الأوروبي حيث تصل النسبة إلى نحو 65 في المائة من إجمالي التجارة الخارجية، وتجمع "آسيان" بنسبة 25 في المائة من إجمالي تجارته الدولية.
وحتى مسألة التوسع الأخيرة، بفتح الباب لانضمام دول لعضوية التجمع، كانت محل تحفظ الهند ومن ورائها البرازيل اللتان يعدانها وسيلة لتعزيز نفوذ بكين، صاحبة الاقتصاد الأكبر في المجموعة، مفضلة إرجاء الأمر إلى قمة أخرى، في انتظار جاهزية الضوابط المنظمة لعملية التوسع. فيما دافعت كل من الصين وروسيا ومعهما جنوب إفريقيا عن الفكرة بقوة، لاعتبارات خاصة بكل دولة على حدة في معركة الصراع مع المعسكر الغربي.
قرأ كثيرون في خطوة التوسع قفزة ذكية، من جانب مجموعة بريكس، نحو وضع نهاية للنظام العالمي الأحادي القطبية، وتزيد الدول الست التي وقع الاتفاق على انضمامها من فرض نجاح ذلك، بالنظر لوزن تلك البلدان الاقتصادي والسياسي وقبل ذلك الديموغرافي في معادلة صياغة القرار العالمي، فالتحاقها بالمجموعة، خاصة المملكة العربية السعودية، العضو في مجموعة العشرين، يضمن نقلة نوعية في جحم اقتصاد التكتل، وثقلا إضافيا في الموقف والقرار السياسي داخل المجموعة.
مهما تكن العراقيل التي تواجه بريكس، فالأكيد أن التكتل قبل قمة جوهانسبورج لن يكون ذاته بعدها، ولا سيما في ظل تنامي الوعي لدى الزعماء والشعوب على حد سواء بضرورة إعادة التوازن الجيوسياسي العالمي، فقد حان الآن لوقف تداعي النسق وما يخلفه من فوضى، وتجمع بريكس أقوى التجمعات الدولية المرشحة للنهوض بالمهمة أو على الأقل المساهمة الفعالة فيها.