عهد عثمان والرخاء الاقتصادي
تستهدف الدول الرشيدة تعظيم رفاهية شعوبها من خلال سياسات التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. ويتم تعظيم رفاهية الشعوب من خلال سلسلة سياسات معينة، تشمل دعم مسيرة النمو المستدام، وتوفير الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وغيرها، وسن وتفعيل نظام ضريبي عادل يوفر موارد تدعم جهود استهداف العدالة الاجتماعية. ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال تحميل القادرين على دفع الأعباء الضريبية من غير مبالغة، والتخفيف قدر الإمكان على باقي الشرائح الاجتماعية. كما يتطلب تعظيم رفاهية المجتمع في الوقت نفسه، وجود نظام تحويلات فعال وجيد الاستهداف للشرائح السكانية الأقل دخلا وثروة في المجتمع، والعدالة في توزيعها. ويتطلب أيضا الرشادة في السياسات المالية والأنظمة القضائية والقانونية، والشفافية والعدالة، ومحاربة الفساد والتصدي له للحد من آثاره السلبية في المجتمعات.
على الرغم من ادعاء كثيرين بأن دولة الرفاهية جاءت مع الدولة الحديثة إلا أن سيرة الدولة الإسلامية في عهدها الأول من بداية عهد النبوة إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين سعت بقوة وإخلاص وفاعلية لترسيخ مفهوم دولة الرفاهية من خلال صلاح الحكام والولاة والرفق بالرعية ومساعدة المحتاجين والفقراء والحض على البذل والإحسان، وفي الوقت نفسه تجنب إرهاق المكلفين.
صحيح أن مظاهر دولة الرفاهية تطورت في العصر الحديث، وشملت أوجها متزايدة مع مرور الزمن، إلا أن جوهرها واحد، وهو السعي نحو العدالة الاجتماعية قدر الإمكان.
مرت الأوضاع الاقتصادية في بداية الدولة الإسلامية بضغوط شديدة بسبب محدودية الموارد، والتركيز على نشر الدعوة، ومواجهة التحديات الخارجية. وساعدت الفتوحات العظيمة على تعزيز موارد الدولة الإسلامية، ما مكن زيادة الدخول والثروات وعزز إيرادات الدولة في ذلك الوقت. ويشهد التاريخ على أن عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان عهدا مزدهرا بسبب السياسات الاقتصادية الناجعة، والفتوحات التي أدخلت مناطق واسعة وغنية ضمن نطاق الدولة. وكثرت في عهده الخيرات وتعمق مفهوم دولة الرفاهية. ويشهد على ذلك كثيرون، منهم التابعي الجليل الحسن البصري، الذي أدرك في صغره عهد عثمان -رضي الله عنه-، الذي ذكر أنه شهد منادي الخليفة عثمان ينادي "أيها الناس: اغدوا على كسوتكم" فيأخذون الحلل "واغدوا على السمن والعسل". وأردف قائلا "أرزاق دارة، وخير كثير".
ومع الرخاء الاقتصادي الذي شهده عهد عثمان الاقتصادي كان -رضي الله عنه- يحض الولاة على أن يكونوا رعاة، ويشهد على ذلك ما كتبه لولاته "أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، لا جباة فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم".
يوضح كتاب الخليفة الراشد عثمان -رضي الله عنه- إلى ولاته حرصه على تقديم رعاية الناس وتسيير شؤونهم. وجاءت هذه التوجيهات اتساقا مع ما أوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل، عندما بعثه إلى اليمن بتوقي جباية كرائم الأموال "نفائسها المتعلقة بها نفوس ملاكها"، وذلك لما فيه من الظلم لأصحابها. وهذا من محاسن الإسلام في جمع الأموال والعدل فيها حتى مع من يؤدونها.
ومن حرصه -رضي الله عنه- على تجنب الإجحاف في حق المكلفين بدفع الأموال، فإنه قصر جمع الزكاة على الأموال الظاهرة من مواشٍ وزروع وما شابه ذلك، وترك للناس إخراج زكاة الأموال التي لا تظهر كالنقود.
لم يقتصر الأمر على ذلك فقد استمر في تفعيل نظام التحويلات الذي شرعه الإسلام سواء عن طريق الزكاة الشرعية التي تؤدى للمحتاجين والفقراء، وكذلك توسع في التحويلات المباشرة لعامة الناس من فوائض بيت المال، أو توفير الخدمات العامة في ذلك الزمان، وتخصيص الأموال للأئمة والمؤذنين والجنود وأسر الشهداء والحج والمساجد. شمل التعامل العادل حتى غير المسلمين، حيث كانت الجزية تفرض على الرجال فقط دون النساء والأطفال، كما كانت تتفاوت حسب الأقاليم المفتوحة وغناها، ما ينسجم مع مبدأ العدالة في الضرائب التي تنص على التساوي في فرضها بين المتساوين، واختلافها مع المختلفين.
على الرغم من كونه -رضي الله عنه- من الأغنياء إلا أنه كان تواقا للعدالة الاجتماعية، ورفع رفاهية الناس، وتحقيق العدالة الاقتصادية بينهم، حيث عملت سياساته -التي منبعها الإسلام- وحسن تدبيره وأمانته، على تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتوزيع الثروة بين شرائح المجتمع المختلفة بعدالة وإنصاف.
إن التشديد على أن الدور الأول للدولة يتركز في رعاية المجتمع، وتسيير شؤونه، يلخص إلى درجة كبيرة مفهوم دولة الرفاهية، فالرعاية تعني تغليب مصالح المجتمع على أي مصالح أخرى، وإنفاق موارد الدولة فيما يرضي الله، والعدالة في توزيع الموارد، ومكافحة الفقر.