لماذا لا نرجح حدوث ركود عالمي؟
في وقت سابق من هذا العام، انتشرت تكهنات جامحة حول ركود يـحـكـم قبضته على الاقتصاد العالمي. لكن بعد مرور أكثر من نصف 2023، نجد أن الصين هي الاقتصاد الرئيس الوحيد الذي يبدو معرضا لخطر الركود المطول بدرجة كبيرة. في نيويورك ولندن، وفي مختلف أنحاء أوروبا، تشهد أسواق الأسهم ارتفاعات شديدة. وفي طوكيو، سجل مؤشر نيكي في يونيو أعلى مستوياته في 33 عاما. ورغم أن بعض الاقتصادات تعاني حقا، يبدو أن الركود العالمي احتمال مستبعد إلى حد كبير.
قد يكون الانكماش الاقتصادي راجعا إلى أسباب عديدة. على سبيل المثال، من الممكن أن تـفـضي الثقة المفرطة من جانب المستهلكين والمستثمرين أو مستويات مرتفعة للغاية من الإنفاق العام، إلى ارتفاع الطلب الكلي إلى الحد الذي يدفع التضخم بدوره للارتفاع، وهذا من شأنه أن يضطر صناع السياسات، خاصة البنوك المركزية، إلى التدخل لتهدئة اقتصاد مفرط النشاط. إذا بالغوا في الأمر -ولنقل من خلال رفع أسعار الفائدة، وبالتالي تكاليف الاقتراض، بشكل مبالغ فيه- فقد يؤدي هذا إلى دفع الاقتصاد للركود.
وقد ينشأ الركود أيضا من جانب العرض. فعندما يكون قطاع بعينه أو الاقتصاد ككل مزدهرا، يبادر الموردون إلى زيادة الإنتاج. لكن إذا بدأ الطلب ينخفض، فقد يبدأ المعروض في التراكم، ما يعوق النمو، بل يوقفه تماما.
لا يدخل أي من هذين العاملين في الأمر اليوم: فرغم أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي كانا يلاحقان تدابير إحكام السياسات النقدية، لم يشهد الطلب أي انهيار، ولم يتراكم المعروض. بدلا من ذلك، كانت توقعات الركود الأخيرة مستمدة إلى حد كبير من تحليلات إحصائية لبيانات سابقة ـ تحليلات لم تضع في الحسبان بالقدر الكافي تأثير جائحة كوفيد - 19 وإرثها.
في ظل ظروف عادية، يحدد التقاطع P من العرض الكلي SS والطلب الكلي DD سعر التوازن AP وحجم التداول OA، الذي يمكن تفسيره على أنه الناتج الكلي. ينشأ تضخم الطلب من حركة منحنى الطلب نحو اليمين، ويحدث التضخم المدفوع بالتكلفة بسبب الحركة الصاعدة لمنحنى العرض.
لكن حركة المنحنى SS والمنحنى DD تفشل في التعبير عن سـمة أساسية من سمات الجائحة: فقد كانت التجارة مرغوبة للغاية، على جانبي العرض والطلب، لكنها كانت أقل أمانا. كان الناس راغبين في تناول العشاء في الخارج، وكانت المطاعم راغبة في خدمتهم. ولكن لم يتمكن أي من الجانبين من القيام بذلك -على الأقل ليس بالدرجة المعتادة نفسها- بسبب مخاطر الجائحة والقيود التي فرضتها. ينطبق الأمر ذاته على عدد لا حصر له من الأنشطة والصناعات الأخرى، من السفر إلى الاجتماع بشكل شخصي مع شركاء الأعمال ومقدمي الخدمات.
على هذا، فإن الجائحة لم توجد اختلالا في التوازن بين العرض والطلب بقدر ما فعل انقطاع الاتصال، الذي أجبر المشترين والبائعين على تحمل تكاليف إضافية، من ارتداء أقنعة الوجه إلى تحريك طاولات الطعام بعيدا عن بعضها بعضا، لجعل التبادلات بين الطرفين في حكم الممكن. كانت هذه الحواجز تعني أن الناتج الفعلي لم يـعـد يتحدد فقط من خلال التقاطع بين المنحنى DD والمنحنى SS، وكان حجم العقبات التجارية أيضا مهما. فكلما ارتفعت الحواجز، ازدادت المسافة بين المنحنى DD والمنحنى SS، وكان انحدار الناتج أكبر.
أشعل انخفاض الناتج على هذا النحو شرارة استجابات سياسية قوية. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أطلقت إدارة الرئيس دونالد ترمب، حزمة تحفيز ضخمة، التي زاد عليها خليفته جو بايدن، لتعزيز الطلب ـ أي بتحويل منحنى الطلب نحو اليمين. كانت العقبات التجارية لا تزال قائمة، لكن الوضع المعدل لمنحنى الطلب DD كان يعني أنها لم تعد تسحب الناتج إلى ما دون المستويات الطبيعية، أو مستويات ما قبل الجائحة. الواقع أنه بفضل ما يسمى "اقتصاد بايدن"، عاد الناتج في الولايات المتحدة إلى نقطة توازنه الأصلية تقريبا.
بعد رفع القيود التي كانت مفروضة أثناء الجائحة، أزيل "الإسفين" الذي دقته العقبات التجارية. لكن منحنى الطلب ظل في وضعه المعدل DD. وبهذا، تقاطع منحنيا العرض والطلب عند نقطة توازن أعلى Q، وهذا يعني ضمنا زيادة الإنتاج -وبشكل حاسم- ارتفاع مستويات الأسعار. كان المقصود من إحكام السياسات من جانب "الاحتياطي الفيدرالي" مواجهة هذه التأثيرات، من خلال دفع منحنى الطلب أقرب إلى وضعه الأصلي DD.
رغم أن إحكام السياسات النقدية من جانب الاحتياطي الفيدرالي يزيد بالفعل من خطر تباطؤ النمو، أو حتى الركود، في الولايات المتحدة، فإن المؤشرات الاقتصادية الأخيرة -خاصة أرقام تشغيل العمالة القوية- توحي بأن الهبوط الناعم احتمال ممكن تماما. الحق أن سياسات تعزيز الطلب التي انتهجتها إدارة بايدن، والتدخلات من جانب "الاحتياطي الفيدرالي" لتهدئة التضخم، كانت مناسبة تماما.
لعل الأمر الأكثر أهمية أن أسعار الفائدة الأعلى في الولايات المتحدة تؤدي من خلال تعزيز قوة الدولار، إلى تحفيز صادرات الاقتصادات الأخرى. وهذا من شأنه أن يجعل ذلك النوع من الركود العالمي الذي تكهن به كثيرون أقل احتمالا بدرجة كبيرة.
خاص بـ «الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2023.