الصناعة البحرية .. أساس الاقتصاد والأمن في العالم
إن الاقتصاد والأمن العالمي يعتمد بشكل كبير على البحر، حقيقة جوهرية طالما غابت عن الأذهان، فتوقف الملاحة البحرية من شأنه أن يحدث مجاعة عالمية كبرى. رغم تسليط الأضواء على الطائرات، يبقى للسفن النصيب الأكبر في أسطول النقل الذي يخدم الاقتصاد العالمي، فلا غنى عنها في سلاسل التوريد، فهي المسؤولة عن نقل أزيد من 90 في المائة من التجارة في العالم، بدءا بالغذاء وانتهاء بالطاقة مرورا بمعظم البضائع الأخرى، وتحضر بقوة أيضا في الأغراض العسكرية، ما يجعل الصناعة البحرية، بكل مشمولاتها، عصب التجارة العالمية، وإحدى الصناعات الاستراتيجية حاضرا ومستقبلا.
اعتبارا لمركزية هذه الصناعة احتضنت مدينة جدة في المملكة مطلع الشهر الجاري، وتحديدا خلال الفترة الممتدة ما بين الرابع والسادس من سبتمبر بالتعاون مع منظمة البحرية الدولية، فعاليات مؤتمر استدامة الصناعة البحرية، تحت شعار "الابتكار من أجل مستقبل أخضر". ويحتفي العالم الخميس المقبل (28 سبتمبر)، باليوم العالمي للملاحة البحرية الذي يصادف، هذا العام، مرور نصف قرن على اتفاقية ماربول (1973) المتعلقة بمنع التلوث من السفن.
تحظى الاستدامة بأهمية بالغة في مجال الصناعة البحرية، فهي سادس أكبر مصدر للغازات الدفيئة، وهذا ما تثبته أرقام تقارير البنك الدولي في 2022 التي تحدثت عن مسؤولة هذه الصناعة عن 3 في المائة من انبعاث الغازات الدفيئة في العالم، وذلك يعادل ما تنتجه دولة اليابان، خامس أكبر مصدر لهذه الغازات، بعد الصين والولايات المتحدة وروسيا والهند.
موازاة مع ذلك، يتوقع أن يزداد الإقبال على سوق صناعة السفن عالميا، بمعدل نمو سنوي مركب يصل إلى 3.2 في المائة، خلال العشرية الحالية (2020-2030). فحجم السوق الذي تعدى العام الماضي عتبة 150 مليار دولار، سيرتفع إلى نحو 200 مليار دولار بحلول 2030. وتتحدث تقارير أخرى عن رقم أكبر، إذ يرتقب أن تصل قيمة السوق إلى 229 مليار دولار بنهاية 2028.
مهما يكن من أمر، فالثابت أن الإقبال على السفن، بمختلف أصنافها حجما "الكبيرة والصغيرة" ونوعا "النقل والسياحة" في ازدهار، ولا سيما السفن لأغراض تجارية، فأغلب الشحنات في العالم يتم نقلها عبر البحر، بأسطول ضخم يقارب 100 ألف سفينة شحن بحري. ويد عاملة تتجاوز 1.8 مليون بحار في العالم، زيادة على أكثر من 20 مليون عامل أخرى تحوم في فلك هذه الصناعة، كعمال الشواطئ وعمال الموانئ والمهندسين البحريين وأطقم الشحن وغيرهم.
تعد دول القارة الآسيوية الرائدة عالميا في قطاع بناء السفن، حيث توجد نسبة كبيرة من إجمالي هذه الصناعة بها، فإلى جانب دول صناعية كبرى سجلت دول آسيوية مغمورة حضورا قويا في هذه السوق، كما هو حال فيتنام مثلا صاحبة 100 ميناء على سواحلها الطويلة، وما يقرب من 20 حوضا لبناء السفن، وأياد عاملة محترفة ورخيصة، كل ذلك جعلها بمنزلة صين صغرى في جنوب شرق آسيا. ونجد في القائمة أيضا الفلبين، هذه الدولة الجزرية التي أضحت واحدة من أكبر مصنعي السفن في العالم، حيث أسهمت بنسبة 1.06 من الإنتاج العالمي لـ2021.
إذا كانت الجغرافيا سببا وراء ازدهار صناعة السفن في دول معنية، فإن التاريخ كان كذلك بالنسبة إلى دول أخرى، منها: مملكة هولندا، إحدى الدول الأوروبية العريقة في بناء السفن، وذلك عائد إلى تاريخها الاستعماري، فالهولنديون بنوا إمبراطوريتهم بالسفن وعبر البحار. الأمر نفسه ينطبق على النرويج، المشهورة عالميا بالسفن السياحية وسفن الصيد، فإرثها البحري يعود إلى بحارة الفايكنج المعروفين بمغامراتهم البحرية. وتزدهر هذه الصناعة في إيطاليا، خاصة ما يتعلق بإصلاح السفن، فهي صاحبة أقدم أحواض بناء السفن في العالم.
ويبقى الثلاثي الآسيوي، الصين واليابان وكوريا الجنوبية، المسيطر على إنتاج أزيد من 90 في المائة من إجمالي السفن المطروحة في السوق العالمية، فحتى 2010 تربعت كوريا الجنوبية على عرش هذه الصناعة، قبل أن تتنازل عنها لمصلحة الصين التي أنتجت نحو نصف الإنتاج العالمي، خلال 2021، حيث أسهمت بما نسبته 44.2 في المائة من إجمالي السفن في العالم. تليها اليابان في المركز الثاني بنسبة مساهمة تقدر بـ17.6 في المائة في هذه الصناعة، مع الإشارة إلى أن طوكيو كانت ضمن الدول التي امتلكت مبكرا حاملات طائرات في العالم.
هذه الأخيرة، أي حاملات الطائرات، بدورها تندرج في هذه الصناعة، لكنها وثيقة الصلة بالمجال العسكري، فوفق موقع "جلوبال فاير بور" المتخصص في الشؤون العسكرية، فإن ثماني دول في العالم فقط تمتلك حاملات الطائرات، بإجمالي 21 حاملة طائرات، نصفها تقريبا من نصيب الولايات المتحدة، واثنتان لدى كل من المملكة المتحدة والصين وإيطاليا، وتمتلك كل من روسيا والهند وفرنسا وإسبانيا حاملة طائرات واحدة فقط.
ارتباطا بالشق العسكري لهذه الصناعة، نذكر فقط بكونها عنصر الحسم في الحرب العالمية الثانية، فالعتاد البري والجوي مهما بلغت قوته لم يقو على قلب موازين القوى التي ظلت متأرجحة على أرض المعارك، حتى دخل الأسطول البحري خط المواجهة، بإقدام الولايات المتحدة على إرسال 790 سفينة من قواتها القتالية، وبنهاية أطوار الحرب صار لدى واشنطن أسطول يتكون من 6700 سفينة.
ما سبق يؤكد فعلا أن البحر عماد "الاقتصاد والأمن" العالميين، فالصناعات البحرية، وأساسا صناعة السفن، تمثل عصب الحياة في العالم، فحركة السفن بلا انقطاع حول العالم ضرورة لاستمرار الحياة. يكفي أن ننعش الذاكرة بحادثة جنوح سفينة الحاويات "إيفر جيفن" في قناة السويس، ما فرض على السفن المتنقلة بين آسيا وأوروبا تحويل المسار بعيدا عن إفريقيا، وكان ذلك سببا في ارتباك سلاسل الإمداد في مختلف أنحاء العالم، نتيجة الخلل في مواعيد التسليم.