«الأمن الاقتصادي» .. استراتيجية أوروبية جديدة لمواجهة التهديدات
تقف القارة الأوروبية على بوابة أزمة تهدد اقتصادها جديا، بعد الاقتراب من مرور ثلاثة أعوام على الحرب الروسية - الأوكرانية، التي أثرت كثيرا في الواقع الأمني والاقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي، خاصة في ضوء المنافسة العالمية المحتدمة في المجال الاقتصادي، إضافة إلى الوضع غير المستقر في غرب البلقان، وفي منطقة الساحل الإفريقي، والصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط.
وللتعامل مع الأزمات التي تعصف بالاقتصاد الأوروبي، أطلقت المفوضية الأوروبية في بروكسل، أخيرا، استراتيجية جديدة للأمن الاقتصادي، في ظل التوترات الجيوسياسية الدولية، التي تهدف إلى تحديد إطار مشترك لتحقيق الأمن الاقتصادي، من خلال تعزيز القاعدة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي وقدرته التنافسية، للحماية من المخاطر الاقتصادية وتداعياتها على الوضع المعيشي في القارة العجوز.
الظروف الاقتصادية الأخيرة، جاءت نتيجة للظروف الصعبة التي تعانيها القارة من تداعيات عدة، أبرزها: الحرب الروسية الأوكرانية، وأثرها في الواقع السياسي والاجتماعي والأمني في أوروبا، وما نتج عن الحرب من تهديد اقتصادي، أصبح بمنزلة عامل محوري في الاستراتيجية الأوروبية للدفاع والأمن، إضافة إلى المنافسة العالمية المحتدمة في المجال الاقتصادي بين الغرب وروسيا من ناحية ومع الصين من ناحية أخرى.
تركز الاستراتيجية الأوروبية للأمن الاقتصادي على محاور عدة، أبرزها تقليل المخاطر الناشئة عن بعض التدفقات الاقتصادية في سياق التوترات الجيوسياسية المتزايدة والتحولات التكنولوجية المتسارعة، مع الحفاظ على أقصى مستويات الانفتاح والديناميكية الاقتصادية، من خلال توسيع نطاق التعاون مع البلدان لمعالجة الاهتمامات والمصالح المشتركة.
وتعالج الاستراتيجية المخاطر الأمنية التي تشكلها الاستثمارات الخارجية، وتعزز ضوابط التصدير على السلع التي لها استخدامات مدنية وعسكرية، ومن بين التكنولوجيات التي تذكرها الوثيقة الحوسبة الحكومية، الذكاء الاصطناعي، الجيل السادس من الاتصالات، والتكنولوجيا الحيوية، الرقائق الدقيقة المتقدمة، والروبوتات، كما ستمنع الاستراتيجية الشركات الأوروبية من إنتاج أنواع عدة من التكنولوجيا في بلدان مثل الصين وروسيا.
وستعمل الاستراتيجية الأوروبية الأخيرة على تعزيز القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي، من خلال تعزيز السوق الموحدة، ودعم اقتصاد قوي ومرن، إضافة إلى الاستثمار في المهارات وتعزيز القاعدة البحثية والتكنولوجية والصناعية للاتحاد الأوروبي، وتعزيز الشراكات مع القوى الإقليمية الناشئة، التي تمثلت أخيرا بالممر الاقتصادي العظيم بين الهند والسعودية وقوى عالمية أخرى.
كما ستوفر الاستراتيجية، حماية الأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي من خلال مجموعة من السياسات والأدوات الحالية، والنظر في سياسات جديدة لمعالجة الثغرات المحتملة، وتتوسع أهداف هذه الإجراءات للحد من أي تأثيرات سلبية غير مقصودة قد تمتد إلى الاقتصاد الأوروبي والعالمي.
وتعطي استراتيجية الأمن الاقتصادي الأوروبي أولوية للشراكة مع أوسع نطاق ممكن من الشركاء لتعزيز الأمن الاقتصادي، بما في ذلك، تعزيز الاتفاقيات التجارية ووضع اللمسات النهائية عليها، وتعزيز الشراكات الأخرى، وتعزيز النظام الاقتصادي القائم على القواعد الدولية والمؤسسات المتعددة الأطراف، مثل منظمة التجارة العالمية، والاستثمار في التنمية المستدامة، من خلال البوابة العالمية.
كما أصدر الاتحاد الأوروبي التعليمات إلى جهاز التحليل الاستخباري للعمل بشكل خاص على اكتشاف التهديدات المحتملة للأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي؛ لضمان دمج حماية وتعزيز الأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي بشكل كامل في العمل الخارجي للاتحاد الأوروبي، لتكثيف التعاون مع دول ثالثة بشأن قضايا الأمن الاقتصادي.
واقترحت الاستراتيجية تدابير كبيرة، لتحسين أمن البحث لضمان التنفيذ المنهجي والصارم للأدوات الحالية وتحديد ومعالجة أي ثغرات متبقية، من خلال استكشاف الاستخدام المستهدف لأدوات السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، لتعزيز الأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي بما في ذلك أدوات الدبلوماسية الهجينة والسيبرانية وأدوات التلاعب بالمعلومات الأجنبية والتدخل.
وتقترح الاستراتيجية إجراء تقييم شامل للمخاطر التي يتعرض لها الأمن الاقتصادي في أربعة مجالات، هي: المخاطر التي تهدد مرونة سلاسل التوريد، بما في ذلك أمن الطاقة، إضافة إلى المخاطر التي تهدد الأمن المادي والأمن السيبراني للبنية التحتية الحيوية، وكذلك المخاطر المتعلقة بأمن التكنولوجيا وتسرب التكنولوجيا، وأخيرا مخاطر استخدام التبعات الاقتصادية كسلاح أو الإكراه الاقتصادي.
وتحدد استراتيجية الأمن الاقتصادي الأوروبية كيفية التخفيف من المخاطر المحددة من خلال نهج ثلاثي المحاور عن طريق تعزيز القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي، من خلال تعزيز السوق الموحدة، ودعم اقتصاد قوي ومرن، والاستثمار في المهارات وتعزيز القاعدة البحثية والتكنولوجية والصناعية للاتحاد الأوروبي.
وستعمل الاستراتيجية على حماية الأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي من خلال مجموعة من السياسات والأدوات الحالية، من خلال النظر في سياسات جديدة لمعالجة الثغرات المحتملة، ومن الممكن أن يتم هذا بطريقة متناسبة ودقيقة تعمل على الحد من أي تأثيرات سلبية غير مقصودة قد تمتد إلى الاقتصاد الأوروبي والعالمي.
وفي إطار الإعداد للاستراتيجية، ناقش الاتحاد الأوروبي مع البرلمان الأوروبي تطوير الأعمال مع الدول الأعضاء لتقييم المخاطر التي تؤثر في الأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، لوضع قائمة بالتكنولوجيات ذات الأهمية الحاسمة للأمن الاقتصادي وتقييم مخاطرها.
وتهدف التدابير الأوروبية الاقتصادية بأبعادها السياسية التخفيف من آثار الحروب والنزاعات، كما ناقشت الجلسة المشتركة بين الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، الانخراط في حوار منظم مع القطاع الخاص لتطوير فهم جماعي للأمن الاقتصادي، للتشجيع على بذل العناية الواجبة وإدارة المخاطر في ضوء مخاوف الأمن الاقتصادي.
وتدعم الاستراتيجية السيادة التكنولوجية للاتحاد الأوروبي ومرونة سلاسل القيمة في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تطوير التقنيات الحيوية، من خلال منصة التقنيات الاستراتيجية لأوروبا.
وعلى صعيد الاستثمار، تمت مراجعة لائحة فحص الاستثمار الأجنبي المباشر، باستكشاف الخيارات لضمان الدعم الموجه الكافي للبحث والتطوير في مجال التكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج، فضلا عن التنفيذ الكامل للوائح مراقبة الصادرات الخاصة بالاتحاد الأوروبي بشأن المواد ذات الاستخدام المزدوج وتقديم اقتراح لضمان فاعليتها وكفاءتها، وجرت دراسة المخاطر الأمنية التي يمكن أن تنجم عن الاستثمارات الخارجية، مع الدول الأعضاء، وعلى هذا الأساس اقتراح مبادرة بحلول نهاية 2023.
الأسباب التي دفعت دول الاتحاد الأوروبي لتبني استراتيجية الأمن الاقتصادي مرجعها تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية المباشرة على الدول الأوروبية الكبرى، ومن أكبر المتضررين ألمانيا وفرنسا.
ألمانيا
شهد الاقتصاد الألماني كسادا في الربع الثاني من 2023، بينما تراجع التضخم في ألمانيا، كما أن أسعار الطاقة مرتفعة، فيما تحاول بعض القطاعات المعتمدة بشدة على الطاقة، مثل صناعة الكيماويات جاهدة العودة إلى مستويات الإنتاج التي كانت مسجلة قبل الحرب الروسية - الأوكرانية.
وتشير التوقعات إلى ارتفاع متوسط تكاليف الكهرباء للاستهلاك السنوي بمقدار 56 يورو، وهو ما يعادل ارتفاعا بنسبة 5.9 في المائة، كما سيرتفع متوسط تكاليف الغاز للاستهلاك السنوي بمقدار 173 يورو، ما يعادل ارتفاعا بنسبة 7.9 في المائة.
إلى ذلك، أعلنت وزارة الاقتصاد الألمانية أخيرا، تأييدها تمديد برنامج كبح أسعار الكهرباء والغاز، وكشف استطلاع للرأي عن تأييد 70 في المائة ممن شملهم الاستطلاع، لاقتراح وزارة الاقتصاد الألمانية، مقابل 13 في المائة فقط أعربوا عن رغبتهم في إنهاء البرنامج بحلول نهاية عام 2023، بينما أكد بقية من شملهم الاستطلاع أنهم ليس لديهم رأي في هذا الموضوع، أو أنهم لا يستطيعون الحكم على هذا الأمر.
فرنسا
كانت فرنسا في مقدمة الدول الأوروبية المتأثرة بتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، ووصل معدل ارتفاع أسعار الاستهلاك 5.2 في المائة خلال 2022، لارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 23.1 في المائة، وأسعار الغذاء 6.8 في المائة، وكذلك أسعار السلع المصنعة والخدمات بنسبة 3 في المائة، بينما سجل معدل التضخم في فرنسا انخفاضا في مايو 2023، وبلغ 5.1 في المائة، بعد أن وصل إلى أكثر من 6 في المائة، مطلع 2023، لارتفاع أسعار الغذاء والطاقة.
كما واصل التضخم الانخفاض، ووصل في يوليو 2023 إلى أدنى معدلاته خلال عام ونصف، بالغا حدود 4.3 في المائة، بعد تراجع أسعار الغذاء بنسبة إلى 12.7 في المائة، وارتفعت نسب البطالة في الربع الثاني من عام 2023، بنسبة 7.2 في المائة، وزاد عدد العاطلين في فرنسا بواقع 20 ألف شخص، ليصل إلى 2.2 مليون شخص حتى يونيو 2023.
كما شهدت فرنسا خلال عام 2022 وكذلك العام الجاري، تراجعا في النمو بشكل كبير في ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وسط مخاوف من الركود في ألمانيا المجاورة مع تضرر الوضع الاقتصادي في أوروبا بسبب تأثير الحرب الروسية في أوكرانيا، بينما تواجه البلاد ارتفاعا كبيرا في أسعار الطاقة والغذاء.
بلجيكا
أدى الصراع الروسي - الأوكراني إلى تعطيل عديد من الأنشطة التجارية والاقتصادية، ما أثر سلبا في اقتصاد بلجيكا، العضو في الاتحاد، لتعيش حالة من الاضطرابات الاقتصادية والتجارية، نتيجة فرض عقوبات من قبل الاتحاد الأوروبي على روسيا كرد فعل على الصراع.
العقوبات الاقتصادية على روسيا انعكست سلبا على الشركات والصناعات البلجيكية. وتعتمد بلجيكا على إمدادات الطاقة، بما في ذلك الغاز الطبيعي والنفط، من مصادر مختلفة، بما في ذلك روسيا، ما أثر في أمن الطاقة في بلجيكا.