إرث هنري كيسنجر .. ما لا يمكن إدارته يجب تغييره
إن رحيل المفكر والممارس البارز في السياسة الخارجية الأمريكية يمثل نهاية حقبة. فطوال حياته المهنية الطويلة والمؤثرة بشكل غير عادي، بنى هنري كيسنجر إرثا سيكون من الحكمة أن يتنبه إليه الأمريكيون في هذا العصر الجديد من سياسات القوى العظمى والفوضى العالمية. إذ من الصعب أن نتخيل العالم من دون هنري كيسنجر، ليس لأنه عاش حتى يبلغ من العمر 100 عام فحسب، بل لأنه احتل مكانة مؤثرة -ومهيمنا في بعض الأحيان- في السياسة الخارجية الأمريكية والعلاقات الدولية لأكثر من نصف قرن من الزمن، بحسب ريتشارد هاس، الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية ومستشار كبير في سنترفيو بارتنرز، شغل سابقا منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية (2001 - 2003) وهو مؤلف كتاب "قانون الالتزامات: العادات العشر للمواطنين الصالحين" (مطبعة Penguin, 2023).
ولد كيسنجر في ألمانيا 1923، وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1938، وعاد إلى ألمانيا أثناء وجوده في الجيش الأمريكي، ثم كان طالبا ثم عضوا في هيئة التدريس في جامعة هارفارد. خدم لمدة ثمانية أعوام في حكومة الولايات المتحدة، في البداية كمستشار للأمن القومي، ثم كوزير للخارجية (تولى كلا المنصبين في وقت واحد بين 1973 و1975) في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد.
وكانت إنجازاته في منصبه كثيرة وكبيرة. فبادئ ذي بدء، كان هناك الانفتاح على الصين، وهي الفرصة التي أوجدها الانقسام الصيني السوفياتي، ولكن كيسنجر ونيكسون اكتشفاها ثم استغلاها لممارسة نفوذهما على الاتحاد السوفياتي (الخصم الرئيس لأمريكا في ذلك الوقت). ولم ينه هذا العرض الدبلوماسي عقودا من العداء بين الولايات المتحدة والصين فحسب. كما أنها أنتجت صيغة لتسوية الخلافات بشأن تايوان، وأرست الأساس للتحول الاقتصادي في الصين، وأقامت علاقة دائمة وتتزايد أهمية على نحو متزايد.
وكان هناك أيضا انفراج: تخفيف التوترات مع الاتحاد السوفياتي. قام كيسنجر ونيكسون (علاقتهما الوثيقة هي أحد التفسيرات لتأثير كيسنجر) بتنظيم العلاقة بين القوتين العظميين في تلك الحقبة. وسمح ذلك بإجراء محادثات الحد من الأسلحة النووية، ووضع قواعد الطريق لإدارة الصراعات التي يشارك فيها حلفاؤهم، وعقد اجتماعات قمة منتظمة ـ وكل هذا ساعد على إبقاء الحرب الباردة باردة، في حين كان من الممكن أن تتحول إلى حرب ساخنة، أو قد تؤدي إلى تصعيد نووي.
ثم كان هناك الشرق الأوسط. إن أوجه التشابه مع اليوم مذهلة، فقبل 50 عاما بالضبط فاجأت مصر وسورية، إسرائيل بهجوم مفاجئ. وحرص كيسنجر ونيكسون على ضمان حصول إسرائيل على الدعم العسكري الذي تحتاج إليه، لكنهما ضغطا أيضا على الإسرائيليين لعدم الإفراط في استخدام القوة العسكرية، لأن ذلك قد يجر الاتحاد السوفياتي إلى الحرب أو يقضي على احتمالات الدبلوماسية في أعقابها. وساعدت دبلوماسية كيسنجر الشخصية "المكوكية" على التوصل إلى وقف إطلاق النار، والفصل بين القوات المسلحة المتعارضة، ما مهد الطريق لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية التي تفاوض عليها الرئيس جيمي كارتر.
إن هذه الإنجازات، التي يشكل أي منها إرثا مهما لوزير الخارجية، تظهر عديدا من العناصر الأساسية لنهج كيسنجر في التعامل مع الشؤون العالمية. لا شك أنه اعتنق الدبلوماسية. لكنها كانت دبلوماسية تعمل على خلفية توازن القوى المواتي. ولم تكن هذه مجرد دبلوماسية، بل دبلوماسية ضبط النفس.
كان كيسنجر ذا نزعة محافظة. لقد أعطى الأولوية للنظام، ما يعني أن جهوده لتجنب الحرب لها الأسبقية على الأهداف الأكثر طموحا التي قدمها الآخرون الذين أرادوا تحويل الدول أو فرض السلام مع العدالة. كان تركيزه مباشرا على العلاقات بين الدول أكثر من التركيز على السياسة داخلها. ومن وجهة نظره، كان العمل الرئيس للسياسة الخارجية للولايات المتحدة هو تشكيل السياسة الخارجية للآخرين.
ويمكن للمرء أن يجد هذه المواضيع في عديد من كتبه ومقالاته، من أطروحة الدكتوراه ومذكراته إلى تأملاته حول الأسلحة النووية، والتحالفات، والدبلوماسية، وأخيرا، النظام العالمي، والصين، والذكاء الاصطناعي. حتى لو لم يخدم كيسنجر قط في الحكومة، فإنه كان سيمارس تأثيرا عميقا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة من خلال قوة أفكاره وبلاغة كتاباته.
وبطبيعة الحال، كان هناك وزراء خارجية أمريكيون عظماء معاصرون آخرون، مثل جورج مارشال، ودين أتشيسون، وجيمس بيكر. لكن لا شيء يمكن مقارنته بكيسنجر عندما يتعلق الأمر بكونه ممثلا ومحللا. وكان من أبرز العلماء الممارسين في عصره. لكن هذا لا يعني أن كيسنجر لم يخطئ في بعض الأمور. ومن المؤكد أنه فعل ذلك، كما سارع عديد من منتقديه إلى الإشارة إلى ذلك.
السياسات الأكثر إثارة للجدل التي ارتبط بها تتعلق بالحرب في فيتنام. ويلقي منتقدو الحرب اللوم على كيسنجر في إطالة أمدها وتوسيعها لتشمل كمبوديا، في وقت رأى كثيرون أنه لا يمكن الفوز بها ولا تستحق القتال. لكنه أثار أيضا انتقادات شديدة من أنصار الحرب، بسبب دوره في التفاوض على إنهائها. سمحت شروط "السلام" لفيتنام الشمالية بتحقيق انتصارها على الجنوب في غضون عامين.
كما لعب كيسنجر دورا مثيرا للجدل في أحداث 1971، عندما وقف إلى جانب باكستان (حليفة الولايات المتحدة التي ساعدت على تحقيق الاختراق مع الصين) على الرغم من التقارير التي تفيد بأن حكومتها كانت تنفذ حملة ضخمة من القمع، أو ما عده كثيرون الإبادة الجماعية فيما يعرف الآن ببنجلادش. وأخيرا، لا يزال كيسنجر يتعرض لانتقادات شديدة لدوره في محاولة الإطاحة بحكومة سلفادور الليندي المنتخبة ديمقراطيا في شيلي، بسبب ميولها الأيديولوجية.
وكان كيسنجر يحاول أحيانا دحض هذه الشكاوى وغيرها بشأن سياساته. لكن جهوده لم تكن مقنعة تماما، لأن بعض الانتقادات الرئيسة كانت لها ما تستحقه. لكن النقطة الأكبر هي أن إنجازاته كانت عظيمة، وأكبر بكثير من إخفاقاته.
والنتيجة هي إرث دائم وجدير بالتعامل مع العالم وبشأن الخطر المتمثل في السياسة الخارجية الأمريكية التي تحددها إما عدم التدخل (الانعزالية) وإما التجاوز (محاولة تحويل المواقف أو الأنظمة التي لا يمكن إدارتها). ومن الحكمة أن يتنبه الأمريكيون إلى هذا الإرث وهم يواجهون مرة أخرى عالما يتسم بسياسات القوى العظمى والفوضى المتزايدة.