صراع في أعماق الباسفيك .. جزر صغيرة وأصدقاء كبار
وجدت دول بالمحيط الهادئ نفسها في قلب الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين على منطقة الباسيفيك، فهذا المحيط الممتد على مساحة تبلغ 170 مليون كيلومترا، تمثل نحو 29.5 في المائة من مساحة الكرة الأرضية، وفيه 14 دولة جزرية، أضحى حلبة عراك متصاعد بين الطرفين، بدءا من التسمية، فبكين تتحفظ على مسمى "الإندو باسيفيك" المعتمد في الدوائر الغربية، بديلا لمصطلح "آسيا الباسيفيك"، لأنه يستبعدها، ويمنح في المقابل الامتياز لقوى غير آسيوية مثل أستراليا أو يدخل قوى خارجية كالهند الواقعة خارج المحيط الهادئ.
تاريخيا، كان المحيط الهادئ، ولا سميا الشق الغربي القريب من آسيا وأستراليا، منطقة نفوذ تابعة للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية في أعقاب انتصار الجيش الأمريكي على الجيش الياباني في معركة جودال قنال. دور حاسم في تلك المعارك أعاد هذه الجزر إلى الواجهة بمساعي واشنطن، وبكين استمالتها بمختلف الأساليب إلى هذا الحلف أو ذاك. لا لقوتها الاقتصادية، فالناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول مجتمعة لا يتعدى 36 مليار دولار، أي ما يعادل تقريبا ناتج ولاية فيرمونت الأمريكية، وإنما لموقعها الاستراتيجي بالقرب من الممرات البحرية في منطقة المحيط الهادئ.
تنظر الولايات المتحدة إلى تلك الجزر بوصفها خط دفاع متقدم عن أراض، فأي حضور أمريكي بها من شأنه أن يعزز الأمن القومي الأمريكي، اعتبارا لموقعها في الجزء الغربي من المحيط. وطالبت أصوات داخل الإدارة الأمريكية بضرورة مراجعة واشنطن استراتيجيتها حيال هذه الجزر، فقد حان الوقت للقتال عنها بدل القتال فيها. وسندهم في ذلك أن إيجاد بكين موطئ قدم هناك، بنجاحها في انضمام هذه الدول لمعسكرها، يجعل ولايات الساحل الغربي الأمريكي (كاليفورنيا وأوريجون مثلا) هدفا للصواريخ الصينية طويلة المدى.
بابوا غينيا الجديدة رقعة عشب أخرى
حول الموقع الاستراتيجي بابوا غينيا الجديدة، الواقعة قرب الممرات البحرية الرابطة بين أستراليا وشمال شرق آسيا وأمريكا الشمالية، إلى جزيرة صاعدة في ساحة الصراع بين القوى العظمى كالولايات المتحدة والصين وفرنسا واليابان والمملكة المتحدة، بعدما اقتصر الحضور -على مدار عقود من الزمان بمختلف أشكاله السياسية والاقتصادية والأمنية- على أستراليا وحدها، فحجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ نحو 3.1 مليار دولار عام 2022.
وجدت بابوا غينيا الجديدة نفسها ساحة جيوسياسية للمنافسة بين الكبرى، فأضحت بورت موسباي، عاصمة هذه الدولة المغمورة في الشأن الدولي، وجهة لرؤساء الدول وممثلي الحكومات (الولايات المتحدة، فرنسا، نيوزيلندا، بريطانيا، أستراليا...)، فسطع نجمها بشكل لافت في ظرف وجيز. ما جعل ويني كياب، الدبلوماسية السابقة في البلد، تصف الوضع بقولها: "نحن في حيرة من أمرنا، الأمر أشبه بمشاهدة فيلين يلعبان على رقعة من العشب، ونحن تلك الرقعة"، وتضيف فيما يشبه التحذير "في الحرب العالمية الثانية، كنا في حرب لا علاقة لنا بها، وهذا تكرار لهذا النوع من التفكير".
تعد واشنطن المحيط الهادئ بحيرة أمريكية، وأسندت مهمة تأمينها إلى أستراليا حليفها التقليدي، قبل أن تظهر الصين عزمها على تعزيز الوجود بالمنطقة. ما فرض الدخول على خط المواجهة بتوقيع اتفاقية تعاون دفاعي أواسط العام الماضي، يمنح الولايات المتحدة حق نشر قوات وسفن في مطارات وموانئ وقواعد البلد. فضلا عن إمكانية الدخول بلا عراقيل إلى المواقع من أجل تخزين مسبق للعتاد والمعدات.
عد مراقبون أن هذه الاتفاقية أولى ثمار القمة الأمريكية الموسعة مع دول جزر المحيط الهندي، خريف عام 2022، التي توجت بأول وثيقة استراتيجية تؤطر الشراكة الأمريكية مع هذه الجزر. أعقبها كشف البيت الأبيض عن مساعدات إنمائية لدول جزر المحيط الهادئ، بلغت قيمتها 810 ملايين دولار، منها نحو 600 مليون دولار خصصت للتنمية الاقتصادية ومواجهة التغير المناخي، خصوصا أن دولا جزرية معرضة لارتفاع مستوى سطح البحر.
من جهتها، تواصل أستراليا تقوية حضورها في البلد بتعزيز القدرات الأمنية للجزيرة التي تعاني نقصا كبيرا في هذا الجانب، فلدى البلد ضابط شرطة لكل 1800 شخص، ما يجعلها أقل أربع مرات من المستوى الذي أوصت به الأمم المتحدة. فأحدث اتفاق بين الطرفين يقضي بتعيين ضباط أستراليين في مناصب رئيسة في الشرطة الوطنية، مع تمويل أسترالي يصل إلى 130 مليون دولار أمريكي لتدريب وتأهيل الشرطة المحلية ومضاعفة أعدادها من ستة آلاف إلى عشرة آلاف.
مساعي واشنطن لتطويق التمدد الصيني في المنطقة واضحة، من الجزيرة المغمورة نحو الفلبين التي سمحت للقوات الأمريكية باستخدام أربع قواعد عسكرية إضافية على أراضيها، ضمنهما اثنتين على مقربة من بحر الصين ومياه تايوان. فضلا عن رصد ميزانية بالمليارات لدعم هذه الجزر، منها غلاف مالي بقيمة 7.1 مليار دولار لتمويل جزر مارشال وميكرونيزيا وبالاو.
جزر سليمان تختار الاصطفاف
تتطلع الصين بفارغ الصبر إلى عام 2024، موعد انتهاء الاتفاقيات الأمنية مع عدد من دول المحيط الهادئ، التي تعد بكين شعوبها أقرب إليها من واشنطن. ما يعد فرصة مثالية لإنهاء الحلم الأمريكي بتأسيس "الناتو الآسيوي" ووضع حد لما وصفه خبراء صينيون بـ"خطوات تشبه المافيا في منطقة جنوب المحيط الهادئ، عن طريق إقامة التحالفات وتشكيل العشائر الصغيرة".
استغلت الصين تزايد مشاعر الغضب من عوائد الاتفاقيات مع المعسكر الأمريكي، فبادرت إلى تعزيز جبهات التغلغل في الدول الجزرية، بالاستثمار في تمويل أكثر من 100 مشروع مساعدات بالمنطقة، فضلا عن التبرع بأكثر من 200 دفعة من الدعم العيني. وفقا لتقرير معهد لوي، وبلغة الأرقام، قدمت الصين خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 2008 و2020 ما يفوق ثلاثة مليارات دولار إلى جزر المنطقة، أغلبها في شكل اتفاقيات ثنائية.
واستطاعت الصين بفضل دبلوماسيتها الناعمة -في سرية تامة- عقد اتفاق أمني مع جزر سليمان، لم تتردد صحيفة الجارديان البريطانية في وصفه حينها بـ"الصفقة التي صدمت العالم". خاصة أنه أول اتفاق عسكري لبكين مع دولة جزرية في المحيط الهادئ، تبعد عن الحدود الأسترالية بنحو 1600 كيلومتر، وعن جزيرة جوام الأمريكية بنحو ثلاثة آلاف كيلومترات. فضلا عن منح الشرطة الصينية امتيازات على هذه الأراضي، من جملتها حق حماية الحي الصيني والصينيين، فضلا عن حق السفن الصينية في الحصول على التموين والدعم، مع تسريبات عن إمكانية بناء قاعدة عسكرية صينية فوق هذه الجزر.
تراهن بكين على تعميم هذا النموذج على باقي الدول بالمنطقة، مستغلة قائمة من الامتيازات والدعم الاقتصادي لهذه الدول، إلى جانب مشاطرتها المخاوف الأمنية. تبذل الصين بسخاء في هذه المعركة، فالأمن القومي الصيني أهم من حسابات الربح والخسارة الاقتصادية، فعزل جزيرة تايوان أولى مكاسب هذه العمل، حيث نجحت في تغيير الاعتراف الدبلوماسي لكل من جزر سليمان وكريباتي من تايوان إلى الصين. كما ترى في هذا التجمع الجزري كتلة تصويتية مهمة (14 دولة)، يمكن المراهنة عليها في المحافل الإقليمية والدولية.
لم يمنع العودة القوية للمعسكر الغربي بعد "الصفقة الصادمة" بكين من مواصلة البحث عن فرص التغلغل في المنطقة، فمطلع ديسمبر 2023، عقد وزير الأمن العام الصيني، حوارا وزاريا حول التعاون الشرطي مع دول جزر المحيط الهادئ، في دورته الثانية، ما يؤكد عزم الصين واستماتتها في تسجيل حضورها في المنطقة.
تتجه المؤشرات نحو تأكيد احتدام الصراع حول استمالة دول المنطقة مستقبلا، في المقابل تثبت المعطيات على الأرض ذكاء هذه الدول في رحلة الإبحار الجيوسياسية بين واشنطن وبكين، فباستثناء دولتين فقط حافظت باقي الدول على مسافة أمان مستغلة المنافسة الدائرة حول مجالهم البحري.