الدين الأمريكي .. إلى أن ينكسر شيء ما!
مع إطلالة العام الجديد تجاوز الدين العام للحكومة الفيدرالية الأمريكية 34 تريليون دولار، مرتفعا بمقدار تريليون دولار في ثلاثة أشهر فقط، ما سيؤدي - لا شك - إلى جدل كبير وعميق في أروقة الكونجرس الأمريكي هذا الشهر، حول مستقبل المديونية الحكومية، ومدى السماح من عدمه برفع سقف الدين لتتمكن الحكومة من مواصلة الاقتراض. مشكلة الدين الأمريكي ليست مشكلة إيرادات بل إنها مشكلة صرف، حيث يتسابق السياسيون، جمهوريون وديمقراطيون، لإرضاء الناخبين بإغداقهم بالأموال دون مراعاة لعواقب ذلك، ومع ذلك فالديمقراطيون يميلون أكثر نحو السخاء المالي بحق شرائح كثيرة من المجتمع، من باب المسؤولية الاجتماعية وغيرها من المعتقدات اليسارية، التي تؤمن بدور كبير للحكومة في رعاية الفقراء ودعم الأقليات والصرف على برامج كثيرة، في سبيل المساواة والعدالة بين أطياف المجتمع. إلا أن هذا السخاء في الصرف المالي ينظر إليه من قبل آخرين، كالجمهوريين على وجه الخصوص، على أنه سلبي للغاية، ليس فقط في استنزافه الميزانية السنوية، بل في أنه يشجع المستفيدين على التراخي والخمول والاعتماد الكلي على الدور الحكومي في الإنفاق والحصول على الخدمات المجانية.
بحسب وزارة الخزانة الأمريكية وصل العجز في ميزانية العام المالي 2024 حتى هذا الأسبوع إلى 381 مليار دولار، وفي 2023 بلغ العجز 1.7 تريليون دولار، حيث بلغت الإيرادات 4.4 تريليون دولار وبلغت المصروفات 6.1 تريليون دولار. المشكلة التي تواجه الحكومة الأمريكية هي في جانب ارتفاع المصروفات، فالإيرادات الحكومية في ازدياد، حيث كانت، على سبيل المثال، 2.1 تريليون في 2009 واستمرت في الارتفاع المتواصل إلى 4.4 تريليون دولار العام الماضي، أي إنها ارتفعت بنسبة 110 في المائة، وعلى الرغم من ذلك هناك عجز متواصل منذ 2001.
تزداد صعوبة التحكم في عجز الميزانية حين نلحظ أن العجز الحالي يأتي في أوقات يتمتع فيها الاقتصاد الأمريكي بالقوة والنمو، على الرغم من ارتفع معدلات الفائدة التي قام بها مجلس الاحتياطي الفيدرالي، أي من المفترض أن تكون هذه من أفضل الأوقات للسيطرة على العجز، كون الإيرادات الحكومية من ضرائب واستقطاعات تكون في أفضل أوقاتها، فكيف ستتصرف الحكومة لو أن ركودا اقتصاديا حدث في 2024 أو بعده، وتقلصت بسببه إيرادات الحكومة؟
الحلول للحد من العجز والسيطرة على تفاقم الدين العام معروفة، ويدركها المشرعون والناخبون، لكنها حلول مؤلمة، فالجميع يعلم أن الصرف على البرامج الاجتماعية مكلف جدا، لكن لا يمكن أن يقبل أحد بالمساس به، بالذات على الجانب الديمقراطي، فلا أحد يقبل بخفض معاشات التقاعد التي وحدها تشكل نحو 1.4 تريليون من الميزانية السنوية، ولا أحد يرضى بالمساس ببرامج الرعاية الصحية التي تكلف الميزانية نحو 1.7 تريليون دولار. البند الآخر الكبير يأتي في جانب تمويل الدفاع والحروب البالغ 850 مليار دولار ومرشح لمزيد من الارتفاعات، بسبب كثرة الحروب التي تدعمها الحكومة الأمريكية أو تشارك فيها. هذه البنود الثلاثة فقط تستنزف جميع الإيرادات الحكومية، وإذا نظرنا إلى تكاليف خدمة الدين فهي الأخرى ضخمة جدا، تبلغ 725 مليار دولار كصافي فوائد على ديون الحكومة.
الحل الآخر يأتي بطبيعة الحال في رفع إيرادات الحكومة التي تأتي بشكل كبير عن طريق الضرائب، نحو النصف منها يأتي من ضرائب الدخل على الأفراد، والثلث منها يأتي عن طريق ضرائب الرواتب، والبقية من ضرائب الشركات والجمارك والورث وغيرها. وهذا النوع من الإيرادات صعب التحكم فيه، كون تغيير نسب الضرائب والاستقطاعات يتطلب تشريعات معينة يصعب التوصل إلى اتفاق بشأنها بين أعضاء الكونجرس، ولا سيما أن الناس اعتادوا على خفض الضرائب لا رفعها، فنجد على سبيل المثال أن أعلى نسبة ضرائب على الأفراد بلغت في أعلى نطاق لها 70 في المائة في السبعينيات، ثم انخفضت إلى 50 في المائة في منتصف الثمانينيات، ثم تدرجت في الانخفاض إلى 37 في المائة حاليا.
مشكلة الدين العام للحكومة الفيدرالية الأمريكية لن تنتهي قريبا، وبحسب توقعات المراقبين من المتوقع أن يصل الدين العام إلى 40 تريليون دولار في غضون أربعة أعوام، وكالعادة ستدور نقاشات حادة بين أعضاء الكونجرس، وفي نهاية الأمر سيستسلمون للأمر الواقع ويوافقون على رفع سقف الدين العام، وستستمر الحكومة في الاستدانة إلى أن ينكسر شيء ما، وعندها قد تتغير قواعد اللعبة، وتحدث هناك اختلالات على مستوى الاقتصاد الأمريكي، ومنه إلى بقية اقتصادات العالم.