أمام مرآة الديمقراطية المخدوشة .. أمريكا تنتخب
يتجه الأمريكيون نحو انتخابات رئاسية، خريف العام الجاري، عدها خبراء في الشأن الأمريكي واحدة من أعقد المحطات الانتخابات في تاريخ البلد. فاستطلاعات الرأي المتعاقبة، تجمع على أن الناخب الأمريكي سيتوجه نحو مراكز الاقتراع على مضض، لامتعاضه من الأسماء المرشحة للمنافسة في هذا النزال الانتخابي، فنحو 70 في المائة من الأمريكيين يرغبون في سباق انتخابي دون بايدن وترمب. لدرجة أن أصواتا رددت بأن العالم بأسره في حركية وتقدم مستمرين، باستثناء المشهد السياسي داخل الولايات المتحدة، حيث بقي جامدا على حاله، منذ عام 2020.
وصف مراقبون الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب بطائر الفينيق، عقب الفوز السهل الذي حققه بداية الأسبوع، بولاية أيوا عن الحزب الجمهوري، في أولى محطات السباق التمهيدي نحو البيت الأبيض. وتوقع آخرون بأن يهيمن الملياردير على الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، خلال عام 2024، بملفاته المفتوحة أمام المحاكم الأمريكية من ناحية. وبسعيه الدؤوب، من ناحية أخرى، لاستعادة الرئاسة، في انتخابات نوفمبر المقبل.
لأجل ذلك، حرص على الحضور المستمر في المشهد السياسي، وعلى مدار ثلاثة أعوام، منذ خروجه من المكتب البيضاوي، في 20 يناير 2021.
من جهتهم، يعمل قادة الحزب الديمقراطي، منذ الإعلان عن الحملة الانتخابية الرئاسية 2024، على وحدة الصف، بوقف التصدع والانقسام بين أعضاء الحزب، حول الرئيس الحالي جو بايدن الذي أعلن ترشحه لولاية ثانية باسم الحزب. فالحزب بين مطرقة كثرة الأسئلة حول مدى قدرته على أداء مهامه الوظيفية على أحسن وجه، إذا فاز من جديد بالانتخابات الرئاسية المقبلة، وسندان الصراع مع الزمن؛ فلا وقت أمامهم لدفع بمرشح بديل؛ ذي وزن ثقيل وصاحب شعبية، تؤهله لخوض غمار المنافسة مع مرشح الحزب الجمهوري.
امتعاض في الداخل
يتطلع الأمريكيون في الداخل إلى الاستحقاق الرئاسي المقبل بكثير من التساؤلات، فإعادة المواجهة لاختيار الرئيس حتما ستكون بين مسنين؛ جو بايدن (81 عاما) ودونالد ترمب (78 عاما)، ما يثير أكثر من علامة استفهام حول مدى تمتع أي منهما بالقدرة واللياقة للعمل كرئيس وقائد أعلى للقوات المسلحة الأمريكية لمدة أربعة أعوام. خاصة بعدما تابع العالم، إبان الولاية الأولى، ولأكثر من مرة، اختلاط الأمور على بايدن أمام وسائل الإعلام، وتعثره كذلك أثناء الصعود الطائرة الرئاسية أو الهبوط منها، ما سيؤثر لا محالة في صورة الولايات المتحدة أمام العالم.
هذا، علما أن إخفاقات إدارة الرئيس بايدن على أكثر من صعيد قد هزت مكانة الولايات المتحدة عالميا، فبدت بمظهر القوة الضعيفة غير القادرة على حسم الحرب الروسية الأوكرانية حتى اليوم. وجاءت وقائع الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، لتكشف ازدواجية المعايير لدى واشنطن، أكثر من ذلك عرت عن حقيقة الشعارات والقيم الإنسانية وهلم جرا مما تلوكه ألسن الساسة هناك دفاعا عن المصالح أولا وأخيرا، فضحايا الحرب في أوكرانيا إنسانيتهم في درجة أعلى من إنسانية ضحايا الحرب في فلسطين. فضلا عن عجزها المطبق على وقف التوسع الصيني المتزايد في مختلف المناطق في العالم، حيث بدت، في أكثر من واقعة وحدث، بموقع المتفرج أكثر من الفاعل والمؤثر.
صورة الديمقراطية الأمريكية مخدوشة في أذهان كثيرين، بمجرد وجود مرشح رئاسي على ورقة اقتراع متهم بارتكاب جرائم فيدرالية وجرائم على مستوى الولايات؛ إذ لا يعقل، في نظر البعض، أن يكون المسؤول الأول عن اقتحام مبنى الكابيتول، في 6 يناير 2021، في هذا السباق الانتخابي. فكيف سيوفق الأمريكيون ما بين ترمب المرشح والمدعى عليه، خاصة مع التزامن الرهيب في بعض التواريخ. فعلى سبيل المثال تبدأ المحاكمة الفيدرالية للرجل، يوم 4 مارس المقبل، أي يوما واحدا فقط قبل انتخابات الثلاثاء الكبير، حيث ستصوت 13 ولاية في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري.
أيا يكن الفائز في هذه الانتخابات؛ بايدن أم ترمب؟، تبقى النتيجة واحدة بالنسبة للأمريكيين، مزيد من الاضطراب قد يمثل تهديدا حقيقيا للاستقرار السياسي في داخل البلد؛ ففوز بايدن لن يمر بسهولة بالنسبة إلى الجمهوريين الذي يضيقون الخناق على الرئيس في أكثر من قضية (الهجرة، الميزانية...). أما فوز دونالد ترمب فيفتح الباب على مصراعيه للصدام بين عدد من المؤسسات في هياكل الدولة.
ترقب في الخارج
الغضب من السياسة الخارجية الأمريكية لا يقتصر على أبناء البلد فقط، ممن هالهم ما شاهدوه في الحرب الإسرائيلية الأخيرة من مساندة ودعم وتحيز واضحين، بل امتد ليشمل الجهات الأربع في العالم. فالسفارات ورموز السيادة الأمريكية في أماكن عدة في العالم، أضحت وجهة للاعتصام والاحتجاج للمطالبة بإنهاء الحرب، خاصة بعد استخدام واشنطن حق الفيتو لمنع وقف إطلاق النار، ما دفع كثيرين إلى اتهام بايدن بالمشاركة في "الإبادة الجماعية" بحق الشعب الفلسطيني.
بقاء بايدن في الرئاسة لولاية ثانية لا يعد بكثير بالنسبة لسياسات أمريكا الخارجية، فالإدارة الحالية بلا بوصلة تسير على هديها، ودون استراتيجية حقيقة لإدارة الملفات، باستثناء ردود الأفعال التي تقوم بها من باب التأكيد على وجودها فقط. بخلاف ما ستكون عليه الحال عند فوز الرئيس الأسبق دونالد ترمب بفترة حكم ثانية، حيث يرتقب أن يحدث ذلك زلزالا في علاقات واشنطن بعديد من دول العالم، وينعكس على أغلب القضايا والأزمات المشتعلة في أكثر من رقعة جغرافية في العالم.
بدأ الأمر مبكرا، فقد استطاع ترمب دفع قيادة الحزب الجمهوري للاستعداد نحو التخلي عن تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، ما يجعل هذه الانتخابات لدى الأوروبيين في درجة انتخاباتهم البرلمانية نفسها صيف هذا العام، فعودة ترمب يعني تراجع اهتمام واشنطن بحلف الناتو، مع يعقب ذلك من تداعيات تهدد باستمرار بقاء الحلف كمظلة أمنية للقارة الأوروبية.
بدورهم يتطلع المستثمرون، من مختلف أصقاع العالم، إلى الرئيس المقبل للولايات المتحدة، فحسب ستين جاكوبسن؛ كبير مسؤولي الاستثمار في ساكسو بنك، "يخشى المستثمرون بحق، ما قد يحدث إذا تولى ترمب المنصب، مع ترقب أجندته الجديدة التي ليس من الضروري أن تكون صديقة للسوق". فالرجل معروف بسياسته "المناهضة للعولمة" التي تتسم بقدر أكبر من الانعزالية، ما يجعل تعهدات واشنطن على أكثر من صعيد في مهب الريح.
باختصار، يتوقع مراقبون أن تكون الولاية الثانية لترمب، في حالة فوزه، نسخة مشددة من ولايته الأولى، على كافة الجبهات والأصعدة (الاقتصادية، الأمنية، الدبلوماسية...). لكل ذلك يرى أحد الخبراء أن الانتخابات الأمريكية المقبلة تمثل التحدي الأكبر للنظام العالمي، وليس الصين أو روسيا أو غيرهما، فما يمكن أن تخلفه من تداعيات سلبية داخليا أو خارجيا من شأنه أن يدفع نحو الفوضى على الساحة العالمية. فوضى تبقى رهينة اختيارات نحو 50 ألف ناخب، في 4 أو 6 ولايات (أريزونا وجورجيا وبنسيلفانيا وويسكونسن وميشيجان ونيفادا)، فهي التي تحدد هوية رئيس المقبل للبلاد.