خصوصية مجتمعنا فخر لكل مواطن

كل عام ونحن نستقبل شهر رمضان الكريم, وتشاهد هذه الجموع التي تفد إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة أو يزورون المسجد النبوي في المدينة المنورة , وفي كل مرة نستقبل الحجاج القادمين من أرجاء العالم نستشعر أهمية هذا الوطن الذي نعيش فيه والذي حبانا الخالق شرف الإقامة فيه وشرف خدمته وخدمة ضيوفه. من هنا نستمد بصفتنا أفرادا ومواطنين هذه الخصوصية التي هي هبة من الخالق وليست جهدا نلناه بأنفسنا أو بإنجازاتنا الفردية. هذه الخصوصية التي يستهزئ بها البعض بل يلغيها وكأنها قرار يملكه هذا أو ذاك, بل أستغرب أن من ينفيها عن مجتمعنا بعضهم ممن يفترض أنه على علم ومعرفة بالتاريخ أو بالاجتماع!
كم هو مؤلم أن هؤلاء لا يستشعرون هذه القدسية لهذا البلد الحرام الذي شرفنا بخدمته وهو مكة المكرمة والمدينة المنورة. هاتان المدينتان اللتان تشكلان محورين دينيين لكل مسلم انطلاقا من أن مكة المكرمة كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ) وبالتالي إذاً هنا القداسة قداسة الله - سبحانه وتعالى- هو الذي وضعها بنفسه واختار هذا البلد وميّزه وخصّه منذ فجر التاريخ - كما ذكر ذلك الدكتور سلمان العودة في برنامج (حجر الزاوية) في حلقته الثانية في شهر رمضان وكانت عن (الحرم), ونجدها في الآية الكريمة يقول الله - عز وجل- (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).
مكة المكرمة التي خصها الله ـ سبحانه وتعالي ـ بهذه القدسية التي يطلق عليها أجد عشرة أسماء منها مكة, بكة, البلد الأمين, الحرم الآمن, وأم القرى. وشاءت عناية الله أن تكون مكة المكرمة في هذه الأرض التي كانت مهدا للرسالات السماوية ابتداء من النبي إبراهيم ـ عليه السلام ـ وشرعت فيها مناسك الحج وقصة السيدة هاجر مع ابنها إسماعيل التي تحدث هزة في نفوس المؤمنين الذين يحسنون التوكل على الله والإيمان بوحدانيته . وكما ذكر الشيخ سلمان العودة أن مهمة النبي إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أنه أبرز هذه المكانة وهذه القداسة وأظهرها حينما أمره الله - سبحانه وتعالى- أن يرفع القواعد من البيت ففعل، وبناها هو وابنه إسماعيل، فكان يبني وابنه إسماعيل يناوله الحجارة حتى وصلا إلى موضع الحجر ثم بنياها وكان يقول: ''رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ''، فهي البنية التي حرمها الله -سبحانه وتعالى- واختارها، اسمها الكعبة (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ).
ألا يكفينا فخرا ـ نحن المواطنين ـ أن نكون ممن اختار لهم الله أن يحملوا شرف رسالة خدمة ضيوف الرحمن؟ وأن نكون ممن ارتوت عروقهم من زمزم , ولفحت الشمس أجسادهم وسبق لها أن نورت الأرض التي عاش عليها الأنبياء وشهدت انبثاق الدين العظيم, وجهاد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة والتابعين كي ينشروا رسالة الإسلام ويطهروا البيت الحرام من الشرك والأوثان وتطهر الأرض الحرم من رجسهم وأوزارهم وأصنامهم.
كيف يجرؤ البعض منا ومن غيرنا ممن يردد أحقاد المستشرقين وحركات التنصير وعدد من المؤسسات الدينية الغربية التي أسهمت في التشكيك في مكانة مكة المكرمة والطعن في قدسيتها مرورا بكتابات كثير من الرحالة والمستشرقين, كما ذكرت هذا الدكتورة ليلى زعزوع في كتاباتها عن خصائص مكة المكرمة التي حفظها الله ـ عز وجل ـ عبر السنين مؤكدة أن الزمان والمكان والرسالة الخالدة شواهد على قدسية مكة المكرمة ومكانها الطاهر الشريف الذي نتحسسه من ديننا وهويتنا الإسلامية, كيف يرددون هذه الترهات ويكررون نفي بل إلغاء هذه الخصوصية التي هي شرف وليست (وصمة نتبرأ منها)؟ بل من المثالب التي يرتكبها هؤلاء ادعاؤهم أن مفهوم الخصوصية يتدنى إلى مستوى السلوكيات المنحرفة من البعض, وكأن الأرض تستمد قدسيتها من الذين يعيشون عليها وليست من خالقها ومطهرها وذاكرها في القرآن الكريم.
وأستغرب جدا تكرار نفي الخصوصية عن هذا البلد الآمن, وكأنه كأي بلد آخر! لا يفقه من يردد نفي الخصوصية أو الاستهزاء بها أي شرف يتخلصون منه بجهل وبغباء أحيانا عندما يربطونه بسلوكيات وعادات وتقاليد هي من سلوكيات الأفراد وليست من منابع التشريع. ينسون أن كل شعب له خصوصية مهما اختلفت عن خصوصيتنا وثقافتنا التي يفترض أنها مستمدة من التشريعات الدينية الإسلامية وليس من استيرادها من الخارج. ولكن نحن هنا خصوصيتنا مستمدة من كوننا شرفنا الله أننا من هذه الأرض التي هي موطن مناسك الحج والعمرة وأداء العبادات من طواف وسعي, ومدن يتم على أرضها إكمال نسك فريضة الحج. ولنتخيل لو أن هذه الميزة لدى سوانا ترى كيف سيتعاملون معها؟
ولن نبتعد عن المقارنات ولكن اقرأوا تلك الكتابات وقصائد الشعر التي نظمها الشعراء وكتب عنها الرحالة والكتاب , ومجد فيها من زار غرناطة في الأندلس! لماذا بكوا عند آثار المسلمين هناك؟ لماذا استحضرت أرواحهم تاريخ الأجداد وآثارهم التي تركوها؟! وأخفقت في أن تستحضر وتستشعر هذا التاريخ المضيء الذي تحتويه كل بقعة من أرض مكة المكرمة والمدينة المنورة وبقية المدن التي لها دلالات مكانية وتاريخية وإيمانية مثل منى وعرفات ومزدلفة, حيث وعد الله بقبول التوبة وهبات المغفرة!
ومن تابع حديث الشيخ سلمان العودة في ذلك البرنامج بوعي وتفهم واستعادة لقدسية هذه البلد التي نحن فيها لاستوعب كثيرا من القضايا التي يجهلها أو يتم إخفاؤها أو التعتيم عليها أو التقليل من شأنها, فمكة التي يستضيء بالبقاء فيها الآن جموع المعتمرين ممن لم تثنهم نداءات التخويف من الإصابة بإنفلونزا الخنازير عن المجيء والبقاء فيها والطواف حول الكعبة والصلاة في رحابها الذي هو مهوى أفئدة المسلمين في جميع بقاع العالم ممن تعتبر المجيء إلى مكة المكرمة والمسجد النبوي وأداء الحج أو العمرة (حلما) يجتهدون أن يتحقق حتى لو بعد حين. وكما قال الدكتور سلمان العودة: (مكة هي الأم, والقرى تعني المدن والدول والمناطق الأخرى كلها حولها, فمكة هي مركز ؛ ولهذا كان من العلماء المتقدمين مثل الجيهاني والصفاقسي وكذلك من العلماء المعاصرين مثل الدكتور حسين كمال الدين وسليم شلتوت وعدد من الباحثين من يؤكدون بالدراسات أن مكة فعلاً هي مركز العالم, وأن توقيت مكة يمكن أن يُعتمد كتوقيت عالمي لهذا الاعتبار).
لقد اختار الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذه البقعة - كما يقول الشيخ سلمان العودة - مثلما اختار من الملائكة رسلاً واختار من البشر رسلاً واختار من الزمان زماناً مثل شهر رمضان بمكانته، اختار من المكان مكاناً والأشياء بعضها يفضل بعضاً والعرب كانت تقول : ''بعض البقاع أيمن من بعض''. وهنا نرجع إلى أن الاختيار هنا له أسرار إلهية ربانية كونه اختار مكة بالذات, ولكن أيضاً إظهار هذا الاختيار له حكم ومعان عظيمة جداً في حياة الناس في بقاء الديانة في كون هذا مرجعا، كون مكة تعد مرجعية للمسلمين وتعد مرجعية للعالم؛ ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) يثوبون إليه ويرجعون إليه وهكذا الإيمان كما في الحديث «والذي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ لَيَأْرِزَنَّ الإِيمَانُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ في جُحْرِهَا» ، يعني يحن إليه ويجتمع ويرجع وينضم إليه، فإظهار هذه الميزة هذا جزء من الديانة أن الله تعالى علم أن الناس في حاجة إلى أن يتعرّفوا إلى بلد له خصوصية, وإلى مكان له فضيلة وإلى بنية يعملون لها أعمالاً وتكون هذه - إن صح التعبير- مظهراً مادياً للتديّن مع بقاء الألوهية لله - سبحانه وتعالى- ولهذا عمر - رضي الله عنه- كان يلمس الحجر ويُقبله ويقول: ''إني لأُقَبِّلُكَ وإني لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ''. ولا ننسى أن هناك ميزة أخرى وقدسية تتميز من أعظم الفضائل أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الصلاة في مكة بمائة ألف صلاة كما صح بذلك الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- فهذه فضيلة، والصلاة في المدينة بألف صلاة، الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة، وفي رواية بخمسمائة لكن الأقرب أنها بمائتين وخمسين. فهل هذه الخصائص لا توقظ في الجاهلين بأهميتها مشاعر الفخر والعزة؟
تابع

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي