النمو النوعي والاقتصاد المعرفي والإنفاق على التعليم (1 من 2)

يفرّق الاقتصاديون بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية وذلك لكي يشمل التعريف البعد الاجتماعي للمنافع الاقتصادية الإضافية, فالتنمية تعني التغيرات الهيكلية في الاقتصاد شاملاً البُنى التحتية وتنمية الموارد البشرية وتسهيل حصولها على الخدمات التي تساعدها على الحياة بصفة عامة، وتزيد من إنتاجيتها بصفة خاصة. أما النمو الاقتصادي فهو الزيادة المجردة في الناتج المحلي الإجمالي GDP Growth بغض النظر عن أين تصب الزيادة، أفي جيوب الأثرياء دون الفقراء، وفي أي منطقة وفي أي قطاع؟ المهم أن الناتج المحلي الإجمالي قد نما بنسبة معينة. وطبعاً، كلما كبرت تلك النسبة كان الأمر أفضل من حيث حجم الدخل، ليس إلا. الأمر الآخر هو أن النمو غير النوعي يمكن أن يحدث عنه سوء في توزيع الموارد وانخفاض في مستوى المعيشة لشريحة كبيرة من أفراد المجتمع وتدهور لقطاعات واعدة في الاقتصاد ولمناطق ذات ميزة نسبية أفضل من غيرها.
حتى مفهوم التنمية الأكثر شمولاً من النمو، فهو لا يحدد ماذا حدث للبيئة من تدهور واختلال توازن أو تلوث جراء الزيادة في معدلات التنمية. ومن هنا جاء تعبير التنمية المستدامةSustainable Development , وهي التي لا تحرم الجيل الحالي من الاستفادة من الموارد المتاحة له، على ألا يكون ذلك على حساب الأجيال المقبلة. بمعنى آخر، أن تستهدف التنمية توزيع الموارد المتاحة توزيعاً أمثل عبر الأجيال. ونتيجة للعولمة الاقتصادية جاء أيضاً مصطلح التنافسية Comptetivness بديلاً عن مصطلح التنمية بصفة عامة، وذلك لأن التنافسية قابلة للقياس، وبالتالي تصلح للمقارنة بين الدول والأقاليم والقطاعات والصناعات، كما تشمل معاييرها ومتغيراتها الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية معاً، فضلاً عن مؤشرات وفعاليات الاقتصاد المعرفي كالتقنية الحديثة واستخداماتها وتطبيقاتها في واقع الحياة وعلى الأرض.
والآن، يتحدث الاقتصاديون عن مصطلح جديد هو النمو النوعي Quality Growth عسى أن يكون أفضل من المصطلحات التي سبقته (النمو، التنمية، التنمية المستدامة والتنافسية). فحسبما أورد Vinod Thomas نائب مدير البنك الدولي ورئيس معهد البنك الدولي في معرض رده على مجلة «الإكونوميست» Economist التي انتقدت فكرة النمو النوعي التي طرحها البنك الدولي في إحدى دراساته، أن التجربة أثبتت في كل من الدول الصناعية والنامية معاً أنه ليس مجرد النمو هو المهم، بل إن النمو النوعي هو الذي يحدد بكم ازداد مستوى الرفاهية؟ ورفاهية من؟ وفي أي إقليم؟ وأي قطاع؟ فهناك دول ذات دخل متساو وتتمتع بمعدل النمو ذاته، حققت في خلال العقود الثلاثة الماضية مستويات متباينة جداً في التعليم والصحة وحماية البيئة، كما تباين فيها أثر النمو في مستويات الفقر, ففي الهند مثلاً، أدى معدل نمو معين إلى تخفيض الفقر في بعض الولايات بأربعة أو خمسة أضعاف انخفاضه في ولايات أخرى؛ ما أدى إلى أثر إيجابي كبير في رفاهية شريحة كبيرة من المجتمع في بعض الولايات.
هذه التجارب تدعو للبحث عن إجابات أبعد من قناعات المسؤولين في البنك الدولي. ويمكن القول هنا إن مثل هذه التساؤلات تبعث رسائل واضحة لوضع السياسات الصحيحة، خاصة سياسات الإنفاق العام، ولكن الحقيقة هي بعكس ذلك, ففهم عملية النمو، شاملاً جوانبها الاجتماعية والبيئية والمؤسسية، هو الذي يبني الملكية ويحسّن نتائج التنمية على مستوى الدولة. والتناقض بين الكمية والنوعية يعد قضية خاطئة، حيث يمكن تحقيقهما معاً، وأن مستوى التفاعل بينهما هو الذي يقرر إن كانت النتائج ستكون جيدة أو سيئة أو عديمة الأهمية. ولمزيد من التوضيح عرض ثوماس Thomas الأمثلة الثلاثة الآتية:
أولاً: عدم المساواة بدرجة كبيرة في فرص التعليم والصحة, حيث إن ملايين من الناس تنعدم لديهم الفرص لتحسين حياتهم, فالفوارق في التعليم بين الولايات في الهند هي أحد الأسباب التي أدت إلى أن يتضاعف أثر النمو الايجابي في الفقر خمس مرات في ولاية كيرالا مقارنة بولاية بيهار. ومثل هذه الفروقات في التعليم في داخل البلد الواحد موجودة بكثرة على مستوى العالم فبحسب مسح جديد شمل 85 دولةً، اتضح أن بولندا والولايات المتحدة وكندا وجمهورية التشيك تقدم فرصاً تعليمية متساوية، بينما في دول أخرى كمصر والهند وباكستان، فإن الفرص التعليمية غير متساوية بما يعادل خمسة أضعاف، الأمر الذي يعد مكلفاً جداً في كل الحالات.
ثانياً: سـوء الحاكمية وفساد الإدارة يعطلان النمو ويضران بالفقراء بصفة خاصة, فالفساد كبير الحجم يجعل النخب المحلية وبعض المتعاونين معها من رجال الأعمال يوجهّون السياسات والقرارات والقوانين لمصالحهم الخاصة وعلى حساب آخرين. لذا، فإن البحوث الحديثة تقترح الحرص على تنفيذ القوانين التي تخفض الفساد الإداري والمالي من المستويات المرتفعة التي تحدث في دولة كأوكرانيا للمستوى المتدني الذي يحدث في دولة كالمجر، في الأجل الطويل، على أن يتزامن ذلك مع مضاعفة متوسط دخل الفرد. كما أن المسألة المدنية وحرية الصحافة تسهم في تخفيض الفساد المالي وتحسّن فاعلية الإنفاق الاجتماعي والمنظومة الحمائية، كما أنها تزيد إنتاجية الاستثمار وتزيد كفاءة أداء الاقتصاد الوطني وفاعلية استغلال الموارد المتاحة.
ثالثاً: تحسين نوعية البيئة وحماية الموارد الطبيعية يحفّز النمو والرفاهية مباشرة، خاصة للفقراء. ويجب أن يكون الاهتمام بالتلوث في المدن واستنزاف وتدهور إمدادات المياه، أو قطع الغابات والتنوع الحيوي، من المهام العاجلة، لأنها ذات مردود كبير. النيران التي شبت في غابات إندونيسيا عام 1997- 1998، كانت جزئياً نتيجة للسياسات الخاطئة، وكلفت على أقل تقدير ثمانية مليارات دولار بصورة مباشرة، ما أضر بالفقراء أكثر مما أضرت بهم الأزمة المالية العالمية الراهنة، علماً أن أكثر تكاليف تدهور البيئة لا تؤخذ في الاعتبار. حيث يبلغ إجمالي الادخار المحلي في الدول النامية نحو 25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي ويبلغ في الدول الصناعية نحو 21 في المائة. وعندما يصحح هذا الوضع بإضافة تكلفة استنزاف رأس المال الطبيعي والبيئي، تنخفض المدخرات في كل هذه الدول إلى نحو 14 في المائة (من 22 في المائة إلى سالب -12 في المائة في نيجيريا، ومن 25 في المائة إلى سالب -2 في المائة في روسيا).
وقد أهمل محللو السياسة ومسيسو الاقتصاد هذه القضايا في تحليلاتهم, فثروة البلاد لا تنحصر في رأس المال المادي فقط، وإنما تتضمن أيضا رأس المال البشري والمؤسسي والطبيعي. في الوقت نفسه هناك ما يدل على قلة الاستثمارات في رأس المال البشري وقلة الانتباه لرأس المال المؤسسي والاستغلال الزائد على اللازم لرأس المال الطبيعي وبصورة منتظمة. وفي هذه الأثناء يستمر رأس المال المادي في التمتع بالدعم الكبير عالمياً، فالزراعة والطاقة والنقل البري والمياه دُعمت بما يراوح بين 700 و900 مليار دولار في السنة خلال العقد الماضي، وكان نصيب الدول الصناعية من ذلك الدعم نحو الثلثين (يعادل 3 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي) ونصيب الدول النامية نحو الثلث (يعادل 5 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي). وللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي