التنمية وتحديات الذكاء الاصطناعي
تشهد تقنيات الذكاء الاصطناعي اهتماماً عالمياً واسع النطاق. ويتمثل ذلك، بشكل رئيس، في الإنفاق الكبير على تطويرها من قبل الدول الصناعية الكبرى كأمريكا والصين وغيرها، ومن قبل الشركات التقنية العملاقة كمايكروسوفت وجوجل وغيرها. وتأتي أهمية هذه التقنيات من حقيقة أنها تُقدم للعالم ذكاء جديداً مُختلفاً يُضاف إلى ذكاء الإنسان، ويُعينه على تقديم كثير من مُعطياته بشكل أفضل، وعلى إعطاء مُخرجات جديدة غير مسبوقة أيضاً. وعلى ذلك تتمتع تقنيات الذكاء الاصطناعي بأهمية مُستقبلية كبيرة في الإسهام في التنمية، وفي ضمان استمراريتها.
ويتمثل التحدي الأكثر تداولاً لتقنيات الذكاء الاصطناعي، في إمكان جعلها بديلاً للإنسان في كثير من المهمات والوظائف، ما يُؤدي إلى انتشار البطالة، وما تُسببه من مشكلات اجتماعية وآثار سلبية في حياة الإنسان والمُجتمعات. لكن هُناك نظرة مُتفائلة إلى هذا الأمر تُذكّر بأن الإبداعات التقنية في الماضي، مثل التقنيات الميكانيكية، ومثل التقنيات الحاسوبية، أدت بالفعل إلى الحد من بعض الوظائف، لكنها طرحت في المُقابل وظائف جديدة غير مسبوقة. والتفاؤل هُنا يكمن في أن يتحقق مثل ذلك مع تقنيات الذكاء الاصطناعي.
يتفوق الذكاء الاصطناعي على ذكاء الإنسان في بعض الخصائص المُهمة، مثل استيعاب المعلومات بأحجام كبيرة ومعالجتها، والسرعة الفائقة في ذلك. ويتفوق ذكاء الإنسان على الذكاء الاصطناعي في خصائص رئيسة أخرى. ومن ذلك إبداعات التخيل، وآفاق التفكير، والتركيز على السببية في طرح الأفكار، فضلاً عن مشاعر الحس العام، والطموح، والشغف، وغير ذلك. وعلى هذا الأساس، لا يُغني الذكاء الاصطناعي عن ذكاء الإنسان في كثير من المجالات، بل إن المتوقع من ذكاء الإنسان أن يستطيع تسخير الذكاء الاصطناعي في تنفيذ مهمات جديدة، في إطار احتياجاته، من خلال نماذج عمل غير مسبوقة، كما كان الأمر سابقاً مع تقنيات أخرى.
هُناك تحديات أخرى للذكاء الاصطناعي تشهد اهتمام العالم بأسره. وتكمن هذه التحديات في ضرورة التزام المُتعاملين مع الذكاء الاصطناعي، من مطورين ومُستخدمين، بمعايير أخلاقية مطلوبة. وقد أصدرت منظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المُتحدة، اليونسكو UNESCO، في نوفمبر 2021 وثيقة تحمل عنواناً يقول "توصيات بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي". وقد تم إقرار هذه الوثيقة من قبل 193 دولة، هي الدول الأعضاء في الأمم المُتحدة، كما تم وصفها كأول وثيقة معايير مُتخصصة في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
لم تكتفِ بعض الدول بالموافقة على وثيقة الأمم المُتحدة، بل قامت بوضع وثائق خاصة بها، ومن ذلك على سبيل المثال ما قامت به الولايات المُتحدة الأمريكية في هذا المجال. فقد صدر عن البيت الأبيض في أكتوبر 2023 أمرا تنفيذيا عنوانه "قضايا الأمان، والأمن، والثقة، في الذكاء الاصطناعي". وبعد هذا الأمر بشهر واحد، أي في نوفمبر 2023، صدر عن مكتب الإدارة والميزانية الأمريكي وثيقة تستهدف تنفيذ هذا الأمر. ويجدر هُنا ذكر أن الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي قدمت أيضاً وثيقة في هذا المجال، وذلك في سبتمبر 2023، أي قبل الأمر التنفيذي الأمريكي. وتحمل هذه الوثيقة عنواناً يقول "مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي".
تتشابه مضامين السلوك الأخلاقي بشأن الذكاء الاصطناعي في الوثائق الـثلاث الدولية، والأمريكية، والسعودية. ولعلنا لإيضاح هذه المضامين نطرح المبادئ السبعة لأخلاقيات التعامل مع الذكاء الاصطناعي، الواردة في الوثيقة السعودية.
يدعو المبدأ الأول إلى النزاهة والإنصاف وعدم الانحياز في تطوير الذكاء الاصطناعي والتفاعل معه. ويهتم المبدأ الثاني بحماية خصوصية وأمن أنظمة الذكاء الاصطناعي. ويسلط المبدأ الثالث الضوء على الإنسانية، أو بالأحرى على ضرورة بناء أنظمة الذكاء الاصطناعي باستخدام منهجية عادلة وأخلاقية، وبعيدة عن التلاعب. ويدعو المبدأ الرابع إلى التركيز على المنافع الاجتماعية البيئية لتقنيات الذكاء الاصطناعي. ثُم يهتم الخامس بموثوقية وسلامة أنظمة الذكاء الاصطناعي. ويُركز المبدأ السادس على الشفافية وبناء الثقة في تصميم وتشغيل أنظمة للذكاء الاصطناعي. ويهتم المبدأ السابع أخيراً بالمساءلة والمسؤولية وشؤون الحوكمة المطلوبة في التعامل مع هذه الأنظمة.
لا شك أن مسيرة التقدم في الذكاء الاصطناعي قد بدأت، ولن تتوقف، وأن عطاءها التنموي الموعود كبير جداً، وتحدياتها كبيرة جداً أيضاً، وعلينا أن نكون جاهزين لكل ذلك علماً وعملاً، والتزاماً بالمعايير الأخلاقية.