لنعقد آمالنا على تعددية الأطراف
التحديات العالمية التي تقتضي حلولا عالمية باتت أكثر حضورا من أي وقت مضى، سواء المناخ المتغير أو المخاطر السيبرانية المتصاعدة. وفي الوقت الذي نواجه فيه هذه التحديات، تتداعى من حولنا الدعائم الثلاث لعصر ما بعد الحرب الباردة التي يرتكز عليها النظام العالمي – القطبية الأحادية، والعولمة المفرطة، والاقتصاد الليبرالي المحدَّث. وتغرس هذه التحولات العنيفة بذور موجة جديدة من القومية الشعبوية التي نرى أمثلتها في حركات "أمريكا أولا" و"روسيا أولا" و"الهند أولا" و"الصين أولا"، وغيرها من الحركات الناشئة حول العالم التي يحمل أغلبها شعار "بلدي الأول والوحيد".
أولا، يتراجع عالمنا أحادي القطب في الوقت الحالي، مفسحا الطريق أمام عالم متعدد الأقطاب – ليس عالما ذا دول متعددة متساوية القوة، بل عالم ذو مراكز قوة متعددة.
ففي عصرنا الحالي، تحررت البلدان مما بدا لها كقيود فرضتها القطبية الأحادية، وأصبحت تشعر أن بمقدورها التحوط من المخاطر، والبقاء على الحياد، والاطلاع بدور "الولايات المتأرجحة". وقد رأينا ذلك على أرض الواقع في نصف بلدان العالم – ومعظمها بلدان غير غربية – التي فاجأتنا بمعارضتها لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا. وفي الوقت الحالي، يفرض 45 بلدا فقط عقوبات على روسيا. وتشعر البلدان أن بمقدورها الاختيار ما بين عدم الانحياز والانحياز المتعدد، وإثارة إحدى القوى العظمى ضد الأخرى.
وثانيا، نشهد في الوقت الحالي أيضا تحولا من عالم الليبرالية المحدَّثة القائم على اقتصاد التجارة الحرة إلى عالم مركانتيلي قائم على "التوريد من الدول الصديقة" في الولايات المتحدة، و"تخفيف المخاطر" في أوروبا، و"الاعتماد على الذات" في الصين. وفي ظل هذه التحولات الحمائية، أصبح للحكومات حاليا دور أكبر كثيرا في السياسة الاقتصادية – لا عن طريق زيادة التعريفات الجمركية في المقام الأول، بل عن طريق حظر الاستيراد والتصدير، وحظر التكنولوجيا، وحظر الاستثمار، والعقوبات أيضا.
ثالثا، فقد تحولنا من عولمة مفرطة حرة لصالح الجميع إلى عولمة أكثر تقيدا، في ظل المخاوف الأمنية واعتبارات البيئة والعدالة التي يتعين مراعاتها في الوقت الحالي. ولم تعد البنوك المركزية هي الخيار الوحيد، ونشهد حاليا نظاما عالميا عماده القوة بدلا من نظام قائم على القواعد. ومع صعود التجارة العالمية في الخدمات، فإن ذلك لا يعني تراجع العولمة أو حتى تباطؤها. فما نشهده هو اعتماد سياسات صناعية قومية عبر أكثر من 100 بلد، حيث سجل العام الماضي وحده ما يزيد على 2500 إجراء حمائي.
وتشير التقديرات إلى بلوغ النمو العالمي 2,8% بحلول 2030، أي أقل كثيرا من المتوسطات التاريخية التي سجلت 3,8%. ويحذر تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي من أن العقد الثالث من القرن الـ21 ربما يكون الأسوأ على الإطلاق بالنسبة إلى النمو في العصر الحديث. وتشديد الحمائية لن يسفر سوى عن تراجع النمو العالمي في وقت نحتاج فيه إلى مزيد من التعاون لتعزيز التجارة والرخاء. ففي الوقت الحالي، يعيش نحو 700 مليون نسمة بين براثن الفقر المدقع الذي طمحت أهداف الأمم المتحدة بشأن التنمية المستدامة إلى القضاء عليه بحلول عام 2030. وبهذه الوتيرة، ستستمر معاناة 600 مليون شخص من الفقر في 2030.
تتضح حالة الإحباط الشعبية من القادة الحاليين في حركة القومية الشعبوية، حيث يلوم الناخبون العولمة نفسها على أقدارهم، في حين إن الجاني الحقيقي هو إخفاقنا في إدارة العولمة بكفاءة.
ينبغي لمنظمة التجارة العالمية تحقيق أقصى استفادة من المهارات المثبتة لمديرها العام، السيدة نجوزي أوكونجو-إيويلا، لحل النزاعات التجارية عبر التسوية والتحكيم والتفاوض، ما يعد تحولا عن اللجوء إلى هيئة الاستئناف الملغاة، التي تضمنت جهازا قضائيا وعُرف عنها التقيد المفرط بالقانون.
أمامنا طريقان. الأول يؤدي إلى تشرذم عالمي وأزمات مستفحلة. أما الثاني، فهو الطريق إلى الرخاء والتقدم والأمل، رهنا بالعمل المشترك. وأنا أختار الأمل.