التنمية في عصر الأزمة المتعددة

أصبح مصطلح "الأزمة المتعددة" العبارة الشائعة في عشرينيات القرن الحادي والعشرين. وهو يشير إلى الطبيعة المترابطة التي تتسم بها التهديدات التي تواجه البشرية اليوم، من الانحباس الحراري الكوكبي، والجوائح الـمَـرَضية، والتفاوت الشديد إلى تآكل الديمقراطية والصراع المسلح. وفي ظل قلة الحلول المعروضة، تفاعل الخبراء وصناع السياسات مع التقاء الأزمات على هذا النحو بالخوف والتهلكة.

لا يشك إلا قِـلة من الناس في أن العالم المرتبك يحتاج إلى تغييرات جهازية، ومع ذلك، في الممارسة العملية، تكافئ المؤسسات والجهات المانحة النخبوية الحلول الجزئية. في 2019، ذهبت جائزة نوبل في الاقتصاد إلى 3 من علماء الاقتصاد لطريقتهم في تفكيك الفقر العالمي إلى مشكلات "أصغر وأكثر قابلية للإدارة" ومن الممكن معالجتها بتدخل صغير واحد في كل مرة.

في تحذيره من الأزمة المتعددة، أدرج المنتدى الاقتصادي العالمي "الأخطار العشرة الأولى" التي تقض مضاجع نُـخَـب العالم الغني.

يعزز هذا التأطير العقلية الصناعية القائمة على "المجازفة" (مشكلة محتملة في المستقبل) والسيطرة. لكننا نواجه حالة من انعدام اليقين (احتمالات مجهولة، قد تكون جيدة أو سيئة) -وهو مفهوم مختلف عن المجازفة- الذي ينبغي أن يحفز التكيف والتعلم.

ورغم أن المستعمرات الرسمية لم يعد لها وجود، فقد نشأت المؤسسات العالمية في عصر شهد وجودها. كان القرن العشرين فترة من الهيمنة الغربية، حيث مارس الرجال الأمريكيون والأوروبيون قوة احتكارية في تصميم قواعد النظام العالمي وإملاء القواعد الفكرية. وكان الافتراض المحفز في دوائر التنمية هو أن الديمقراطيات الرأسمالية الغربية تجسد نقطة نهاية التطور البشري، وأن بقية العالم ما عليه سوى محاولة "اللحاق" والاستيعاب.

جرى تنظيم هذا الاستيعاب من خلال إصلاحات "الحكم الرشيد" التي تناسب الجميع التي تقدمت بها المنظمات الدولية بقيادة الغرب مثل البنك الدولي. ولكن كما أفضت مُـجانَـسة الغابات من خلال الزراعة الصناعية إلى تدمير تنوعها وقدرتها على الصمود.

أنا شخصيا أرى 3 فرص للفِـكر الجديد والبحث والعمل. أولا، ينبغي لنا أن نستعيض عن فِـكر الوضع الآلي بنموذج "الاقتصاد السياسي التكيفي". يعترف هذا النهج بحقيقة أساسية: فالعالمان الطبيعي والاجتماعي لا يتألفان من أشياء معقدة (مثل محمصات الخبز)، بل أنظمة معقدة (مثل الغابات).

تتكون الأنظمة المعقدة من أجزاء عديدة متحركة تتكيف على نحو مستمر، وتتعلم، وتتصل ببعضها بعضا في سياق نظام ناشئ أكبر. وفرض نماذج ميكانيكية على مثل هذه الأنظمة مضلل، إن لم يكن مدمرا.

من الممكن أن تساعدنا دراسة كيفية عمل الأنظمة المعقدة، وخاصة في الجنوب العالمي، على استخلاص رؤى وحلول جديدة في عالم مشوه بسبب تقديس الآلة وروايات مخلخلة حول النمو الغربي. وقد وَجَـدَ عملي الخاص في دراسة التنمية الاقتصادية كعملية غير خطية (تطورية مشتركة) في الصين ونيجيريا أن المؤسسات المناسبة لمرحلة مبكرة من التنمية تبدو وتعمل بشكل مختلف عن تلك المناسبة للاقتصادات الناضجة.

ثانيا، يجب أن يتضمن النموذج التكيفي بعدا شاملا وأخلاقيا. وهذا يعني استبدال منطق الاستيعاب الاستعماري بالشعار البليغ: "استخدم ما لديك". كل يوم في البلدان النامية، يرتجل الناس ويستخدمون على نحو مبدع كل ما هو متاح لهم لحل المشكلات. نجح المزارع أبا هاوي في إلهام حركة اجتماعية جديدة في إثيوبيا عندما أحيا تقنيات الحفاظ التقليدية لتجديد الأرض.

ثالثا، بدلا من التذبذب بين النقيضين من الأسواق غير المقيدة واقتصادات القيادة والسيطرة، ينبغي للحكومات في القرن الحادي والعشرين أن توجه العمليات التكيفية. وهذا يستلزم تنسيق وتحفيز شبكة لامركزية من القوى الفاعلة، واكتشاف النتائج الناجحة ولكن ليس تحديدها مسبقا، والاستفادة إلى أقصى درجة من التجريب والمردود من القاعدة إلى القمة ــ تدابير تتجاوز نطاق السياسات الصناعية التقليدية.

إن الأزمة المتعددة لا تصيب بالشلل إلا أولئك الذين يتشبثون بالنظام القديم، أما أولئك الذين لا يتشبثون به، فإنها تقدم لهم ما أسميه "الوحدة المتعددة" التي من شأنها أن تبشر بنماذج جديدة تُـبـطِـل الطريقة التي نفكر بها في عملية التنمية، ومصادر الحلول، ودور الدولة.

خاص بـ "الاقتصادية"

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي