السيليكون دوكس .. الابتكار العابر للحدود
شهدت أيرلندا في العقود الثلاثة الماضية تحولاً كبيراً جعلها واحدة من أكثر مراكز التقنية نشاطاً في أوروبا، وذلك بفضل مجموعة من الإصلاحات السياسية الإستراتيجية، والمبادرات الحكومية، وقدرتها على جذب عمالقة التقنية العالميين.
وفي قلب هذا التحول برزت منطقة سيليكون دوكس في دبلن، وهو الاسم الذي صاغه لأول مرة الصحافي جيمي سميث في 2011 عندما تحدث عنه في مقالة في الفاينانشيال تايمز، مستوحيا الاسم من التشابه بين وادي السيليكون في كاليفورنيا ومنطقة جراند كانال دوك في دبلن، التي أصبحت مركزاً لشركات التقنية الكبرى مثل جوجل وفيسبوك، ما يعكس صعود دبلن السريع كمركز ابتكار أوروبي.
كان المحور الرئيس في الإستراتيجية الأيرلندية هو الضريبة المفروضة على الشركات بنسبة 12.5%، التي أصبحت عامل جذب رئيس لشركات التقنية العالمية التي سعت إلى إنشاء مقراتها في أوروبا.
أسست شركات التقنية الكبرى مثل جوجل وفيسبوك ولينكدإن وتويتر مكاتب لها في سيليكون دوكس، مستفيدة من السياسة الضريبية الجاذبة ومجموعة الاتفاقيات الضريبية المزدوجة. قدمت هذه الاتفاقيات حوافز مالية كبيرة للشركات لتأسيس أنشطتها الأوروبية في دبلن، ما ساعد على تحويل منطقة دوكس الصناعية السابقة إلى تكتل تقني يضم فيه كبرى شركات التقنية العالمية.
إضافة إلى السياسة الضريبية، نفذت أيرلندا سلسلة من الإصلاحات التنظيمية لتسهيل مزاولة الأعمال. فعلى سبيل المثال، أدخلت أيرلندا برامج التأشيرات السريعة، ما يسَّرَ على الشركات العالمية والمتخصصين في مجال التقنية الانتقال والعمل في أيرلندا. كما تم تحديث سياسة الملكية الفكرية، ما وفر للشركات حماية موثوقة لاختراعاتها وابتكاراتها، وهو ما ساعد على جذب مجموعة واسعة من الشركات التقنية التي تسعى لحماية أصولها الفكرية.
أدركت أيرلندا أيضاً أهمية توافر قوى عاملة مدربة ذات مهارات عالية، فاستثمرت بشكل كبير في التعليم وتطوير المواهب، وقد ركزت برامج مثل Skillnet Ireland على تطوير المهارات في مجالات رئيسية مثل تحليل البيانات وتطوير البرمجيات والذكاء الاصطناعي. كان الاستثمار في البنية التحتية أيضا أحد أجزاء قصة النجاح في تحول أيرلندا.
فتم إعادة تطوير منطقة جراند كانال دوك في دبلن لتلبية احتياجات شركات التقنية الناشئة، مثل توفير مساحات مكتبية عالية الجودة وبنية تحتية رقمية متقدمة. كما دعمت الحكومة إنشاء مراكز الابتكار مثل ديجيتال هب، الذي وفر مساحات عمل مشتركة وفرصاً للتعاون بين الشركات الناشئة وشركات التقنية المتقدمة.
كما امتد دعم حكومة أيرلندا ليشمل النظام المالي أيضًا، حيث لعبت الحكومة دورًا محورياً في بناء نظام رأس المال الاستثماري المستدام من خلال مؤسسة إنتربرايز أيرلندا لدعم الشركات الأيرلندية.
وأصبحت إنتربرايز أيرلندا واحدة من أكبر الجهات المستثمرة في رأس المال الاستثماري في أوروبا، حيث توفر تمويلاً للشركات الناشئة في مراحلها المبكرة وتساعدها على التوسع عالميًا من خلال استثمارات الأسهم أو منح الشركات طوال رحلة نموها.
وكان من بين السياسات الرئيسية أيضًا إدخال الحوافز الضريبية للبحث والتطوير، التي سمحت للشركات باستعادة نحو 25% من نفقاتها المخصصة للبحث والتطوير. برهنت هذه السياسة أهمية الحوافز الضريبية في تشجيع الشركات التقنية على الاستثمار في الابتكارات الجديدة دون تحمّل تكاليف مرهقة، ما خلق بيئة مشجعة للإبداع والتقدم التقني.
وبالنظر إلى الحراك الذي تقوم به السعودية من خلال رؤيتها الطموحة 2030، لدفع عجلة التنمية وتعزيز التنوع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط، نجد نموذجا مقاربا لما قدمته أيرلندا عبر عديد من البرامج والمبادرات الوطنية الطموحة سواء عبر جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة أو الاستثمار في المواهب أو تطوير البنية التحتية على اختلافها لتعزيز الابتكار والتوجه نحو اقتصاد قائم على المعرفة. كل تلك المبادرات أسهمت وستسهم في صنع نظام بيئي معرفي وابتكاري مزدهر، يمكن السعودية من الريادة الإقليمية والدولية بإذن الله.