من أحادية النفط إلى تنويع الإيرادات
يواجه العالم تحديات متزايدة من ركود متوقع، واضطرابات متعددة المصادر، وتغيرات جيوسياسية كبرى. تظهر السعودية كواحدة من الدول التي استطاعت صياغة نموذج اقتصادي متوازن بين الاستدامة المالية، والنمو الاقتصادي والمرونة في مواجهة التحديات، وتأسيس بنية اقتصادية متينة على المدى الطويل، مع رؤية واضحة نحو المستقبل.
الميزانية ليست مجرد أداة مالية، بل وثيقة حية. تقرير الميزانية للربع الرابع من 2024 يظهر لنا كيف يمكن أن تتحول الأرقام إلى أدوات بناء في واقع اقتصادي أكثر تنوعا واستدامة.
أحد أبرز معالم الميزانية هو إجمالي الإيرادات الفعلية التي بلغت 1,259 مليار ريال، بزيادة قدرها 7.4% وتعد الأعلى خلال الـ20 سنة الماضية. اللافت للنظر هو الدور المتزايد للإيرادات غير النفطية، بلغت 502 مليار ريال بزيادة 10 % عن العام السابق، هذا التحول يعكس توجه صُناع السياسات الاقتصادية نحو التحرر من قيود الاقتصاد الأحادي المصدر، والنمو في الأنشطة غير النفطية بنسبة4.3 % يُعد شاهدًا على جهود تنويع الاقتصاد.
في المقابل، بلغ إجمالي النفقات 1,375 مليار ريال، متجاوزًا التقديرات بنسبة 10% ومن المنظور الاقتصادي، يُظهر هذا الرقم اعتماد السعودية على سياسة الإنفاق التوسعي لدعم مشاريع التنمية، مع التركيز على القطاعات ذات الأولوية مثل التعليم، الصحة، والخدمات البلدية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الزيادة في الإنفاق لم تكن عشوائية، بل موجهة نحو مشاريع إستراتيجية تدعم أهداف رؤية 2030، مثل تطوير البنية التحتية وتعزيز جودة الحياة، ودعم الاقتصاد الرقمي، حيث تم استخدام نهج إدارة المشاريع الذي يضمن تخصيص الموارد بكفاءة من خلال هيئة كفاءة الإنفاق والمشاريع الحكومية.
نلاحظ أن النمو السنوي المركب من2016 إلى 2024 للإيرادات بلغ 7.1% أعلى من معدل النمو للمصروفات 4.9%، وهذا يظهر نجاح السياسات الاقتصادية في تنويع مصادر الدخل وزيادة كفاءة الإنفاق، ويعكس تحولًا اقتصاديا عميقا نحو الاستدامة، والمرونة.
رغم ارتفاع العجز إلى 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن هذا يعكس نهج السياسات الاقتصادية التي تراه استثمارًا في المستقبل، حيث يقوم على مبدأ قبول العجز المخطط إذا كان يسهم في تعزيز النمو المستقبلي، ويقابل هذا العجز المدروس احتفاظ الحكومة باحتياطيات تزيد على 390 مليار ريال، ما يضمن تحقيق الاستقرار المالي.
فيما يتعلق بالدين العام، بلغ إجماليه1,216 مليار ريال، موزعًا بشكل متوازن بين الدين الداخلي الذي بلغ 738 مليار ريال (60.7%) والدين الخارجي الذي بلغ 478 مليار ريال (39.3%)، وتُقدر نسبة الدين إلى الناتج المحلي بـ 29.7%، مع تصنيف ائتماني (A+)، وهي نسبة تعكس قدرة الدولة على تمويل مشاريعها دون تحمل أعباء كبيرة، وينظر لهذه النسبة اقتصاديا على أنها ليست عبئًا يقيد الموارد المستقبلية، أي إن الديون ضمن نطاق الأمان المالي مع الاحتفاظ بمرونة مالية للمستقبل والأجيال القادمة.
ورغم ذلك، تلتزم السعودية بسياسات اقتصادية رصينة، حيث لا يتم التوسع في الديون إلا بالتوازي مع توسيع القاعدة الاقتصادية الإنتاجية، من خلال زيادة الناتج المحلي الإجمالي.
تُعد ميزانية السعودية نموذجًا رائدا في إدارة الموارد المالية بكفاءة لتحقيق الأهداف الإستراتيجية، عبر توسيع القاعدة الاقتصادية، وتنويع وتنمية الإيرادات، وتحفيز الاستثمار في قطاعاتها المختلفة، كما تعتمد على تمويل الأنشطة الاقتصادية بنهج مدروس يعزز النمو ولا يؤثر في السيولة المحلية، مع الحفاظ على احتياطيات حكومية قوية ومستويات دين منخفضة ضمن هامش أمان مرتفع، ما يرسخ المرونة الاقتصادية ويُمكنها من مواجهة التحديات المستقبلية بثقة واستدامة، وفق رؤية السعودية 2030.