ظاهرة التباين في القوى: الأبعاد والآثار

أبرز ما يلفت النظر في ظاهرة التباين في القوة هو الاختلاف البنيوي أو التفاوت في مستويات البنية الأساسية للدول. وقد فرض القرن الـ 20 واجهات في هذا المضمار تميز بين الأغنياء والفقراء. فالأغنياء أصبح اسمهم العالم المتقدم، أما الفقراء فأصبح اسمهم الدول النامية أو العالم الثالث. وبعد أن ظن الأثرياء أن هذه هي خاتمة المطاف وأنهم ربحوا المعركة وثبتوا مواقفهم على ذلك، وأن التاريخ قد توقف، حيث يتسنمون قيادة العالم وأن العالم المتقدم قد ملك كل شيء. إذا بهم يكتشفون أن السنوات الأولى من القرن الـ 21 تحمل لهم حقائق تثبت لهم أن استنتاجاتهم كانت متسرعة. وكان عليهم قبل الاحتفال أن يراقبوا بإمعان إنجازات الصين والهند وغيرهما من دول شرق آسيا إلى جانب بعض دول أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا والشرق الأوسط، بل إن من بين الاقتصادات الإفريقية التي تعد الأضعف في العالم هناك دول مثل بتسوانا تنطلق بسرعة مذهلة، إلى جانب المناطق الصغيرة والمدن مثل هونج كونج وسنغافورة ودول سكانديناوة التي نفذت نجاحا كبيرا في إطار مراعاة بيئية ومطاردة للفساد ما جعلها تتمتع بحياة تفوق نظيرتها في الدول المتقدمة. أي أن العالم في حاجة إلى تحليل جديد ولغة جديدة لوصف ما يجري الآن.
غير أن أتعس الدول حظا هي تلك التي لا تتمتع بأسوأ بنية، فالتقلبات المناخية أخذت حصتها وتسببت في موجات جفاف وقحط إلى جانب الحكام المستبدين والعنف المحلي وظروف المعيشة الصعبة والافتقار إلى المؤسسات الفاعلة في مجال التعليم والتوظيف. وفي عام 2003 وحدها أدى هذا الفقر العام في البنية إلى حرمان 1.1 مليار نسمة من الوصول إلى المياه النقية الصالحة للشرب و2.6 مليار نسمة (خمسي سكان العالم) لم يكن لديهم صرف صحي سليم. وعلى النقيض كان أغنياء العالم يستمتعون بـ 80 في المائة من موارد العالم مع أن عددهم لا يتجاوز خمس سكان المعمورة.
إننا الآن في موقف يمكننا من معالجة هذا التفاوت في الثروة والبنية خاصة ونحن لدينا كل هذه الموارد المالية والثقافية والتجارية. ورغم ذلك ما زالت هناك ظاهرة تجاهل المطحونين.
وهكذا نقف على أطراف النقيضين: فنحن نقف على حافة عصر الوفرة وعصر الاختلافات البنيوية.
جنبا إلى جنب مع هذا التناقض هناك تلك القوة الهائلة القادرة على التدمير وكسب الحروب وتبرير الغايات والوسائل التي يتبعها أولئك الذين يملكون قوى كامنة.
فالمعروف أن تدفق طاقة الاختراع أدى إلى تطوير صناعة الأسلحة، كما أن السعي لإنتاج أسلحة متفوقة حفز النزعة للتوسع في الاختراع. ذلك أن الموجات الأولى من الاختراعات – العجلة والبارود والصلب - قدمت أسلحة للحروب، أما المخترعات التالية مثل الطائرة والكمبيوتر والمفاعلات النووية، فقد زودتنا بأدوات الدمار الشامل. وفي غضون سباق التسلح الذي شهده القرن الـ 20 بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة تم تجميع وتكويم وتخزين أسلحة الدمار الشامل. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي انتشرت هذه الأسلحة بين أعداد أكبر من الدول وكذلك الخبراء الذين يفهمون تقنياتها.
كانت حرب العراق محطة جديرة بالوقوف لأسباب عديدة. أولها أنها أثرت تأثيرا كبيرا في إعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط، وثانيها السيطرة على منطقة من أكثر مناطق العالم ثراء بالنفط، وثالثها القضاء على نظام اشتهر (حسب مصالح كل طرف يصفه) بأنه شرير، ورابعها إرسال رسالة إلى كل أعداء الولايات المتحدة حول مترتبات عدائهم لأمريكا، وخامسها تعزيز مكانة إسرائيل بالحضور الدائم إلى جانبها لإبعاد الخوف الإسرائيلي الدائم من فكرة بعدها عن حاميها وعمقها الاستراتيجي، وهناك سبب سادس أعلنه الأمريكيون وهو تعريف العراقيين بالديموقراطية. ولكن النتيجة أظهرت فشلا في التقييم السياسي والاستراتيجية والتكتيك ولم يحقق النتائج التي أعلن الأمريكيون أنهم يأملون فيها. وقد تعلم أعداء أمريكا عدة دروس أهمها: تملك الأسلحة النووية ومعرفة استخدامها، وفي حالة غياب الأسلحة النووية، اخسر المعركة التقليدية بسرعة لتتفرغ لشن حرب عصابات طويلة الأجل، ما يسفر حتما عن تخريب الأهداف السياسية لأمريكا، وذلك عن طريق التفريق بينها وبين حلفائها والارتباط الوثيق مع الجيران للتأثير بسياسة الأرض المقهورة، والأهم من ذلك كله ممارسة سياسة ضبط النفس الطويل أو الصبر. والهوة بين النوايا والنتائج كفيلة بإحداث مترتبات غير مقصودة، لصالح الطرف الأضعف.
إن زيادة القوة العسكرية تحدث عادة نتائج عكسية عند استخدامها. ونظرا لأن قدرة الأقوياء على التدمير قد أصبحت كبيرة فإن قدرتهم على ضبط النفس وعدم اللجوء للقوة تقل وتتضاءل وبذلك تفلت فرص السلام من أيدي العقلاء.
وهكذا يقف العالم على طرفي نقيضين: نقف على حافة عصر التدخل العسكري الاستراتيجي وعصر المغامرات السياسية ذات العواقب الوخيمة.
ولا يمكن أن نغفل حقيقة مهمة وهي أن الحروب أصبحت تنتهي بسرعة أكبر من ذي قبل. وكما هو معروف فقد قامت الإمبراطوريات على قوة أصحابها وعلى مرونتهم وسرعتهم. ومع القرن الـ 21 أصبح تغيير أساليب الحرب أمرا في متناول يدنا، بل إن القدرة على تدمير العدو على البعد زادت بشدة. لقد انتهى عصر السيف والبندقية وحلت الطائرة والصاروخ محلهما، حيث يقومان بتسوية المواقع بالأرض والتفاوض مع ما تبقى من سكان الخرائب. فالحرب العالمية الأولى التي استغرقت أربع سنوات قتل فيها 37 مليوناً و61 مليوناً قتلوا في الثانية التي استغرقت سبع سنوات. وفي العقد الماضي استغرقت حرب العراق الأولى ستة أسابيع، أما حرب 2003 فقد استغرقت نصف هذا الوقت أي أن الحرب الرسمية أصبحت تستغرق وقتا أقل. ولكن الجندي الأمريكي الذي أخبروه بأنه محرر العراق اكتشف أنه هدف للبصق في وجهه وإلقاء الحجارة عليه وسبه وقتله. فالحروب السريعة لا تستطيع هزيمة عقل وإرادة العدو الذي يريد مواصلة القتال رغم إعلان أعدائه الأقوياء نهاية الحرب. في الحروب القديمة كان المنتصر يفرض إرادته على عكس حروب اليوم. ويُمكن تطبيق عامل السرعة على الحروب الاقتصادية، فقد أصبح من الممكن شراء الشركات وإفلاس أخرى ودمج بعضها في لحظات. وفي عام 2000 وحده تم إجراء 39.499 معاملة وصفقة قيمتها 3.4 تريليون دولار بين الشركات المختلفة.
لقد أصبحت القدرة على كسب الحروب أمرا واضحا ولكن قدرتنا على ربح السلام ما زالت تحديا حقيقيا.
ولهذا نحن نقف على طرفي نقيض: نحن نقف على حافة عصر الحروب السريعة أو عصر الحروب المستمرة لأننا غير قادرين على تحقيق السلام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي