عصر التنافر وزيادة الاحتماء بالمواقف الثابتة

في محاولة للتعرف على جوهر ما يجري في أروقة العلاقات الدولية، لاحظ الخبراء بروز عدة ظواهر على رأسها:
- زيادة التمسك بالمواقف الثابتة ورفض المرونة والتعبير وإصرار كل كتلة على معطيات تعتبرها مقدسة.
- زيادة التنافر بين الدول والشعوب بحجج المصالح أو لمجرد الرغبة في الهيمنة.
- انتشار الأيديولوجيات والتي اُستمد بعضها من الدين والبعض من الانتماءات السياسية.
- ارتفاع نسبة الحروب بين قوى غير متكافئة في ظاهرة تشبه بداية عهود الاستعمار.
- الاختلافات الهائلة في البنية التحتية للدول.
ويعطي أساتذة العلوم السياسية والاستراتيجية موضوع التحولات في النظرة إلى الدين وبروز الأيديولوجيات القسط الأكبر من الاهتمام. بل إن فريقا يذهب إلى أن قلاقل العالم سببها هذا التحول. وإذا فتحنا كتاب التاريخ لنقرأ صفحات الأديان سنلاحظ صعود وهبوط مؤشرات التعامل مع الدين بين حدة وتمسك وبين استرضاء وابتعاد. فأثناء أمجاد اليونان والرومان بقيت آلهتهم رموزا للبنية الوطنية. وقبلهم كان الدين العامل المهيمن على الحضارة الفرعونية أو المصرية القديمة. فالمصريون بنوا الأهرامات باقتناع ديني، وكان رع وست ''إله الشر'' وآمون آلهة لها قدسيتها، وكان الملوك يستمدون شرعيتهم من موقعهم القريب من الآلهة. وكانت الآلهة اليونانية هي نفسها الآلهة الرومانية وإن اختلفت المسميات: أفروديتي هي فينوس وكذلك الحال بالنسبة لزيوس (جوبيتير) وديانا وأثينا وبوسبيرون وهيفايستوس.
وكان الإسكندر الأكبر رائدا في المصالحات الدينية، فما إن وصل إلى مصر حتى توج نفسه في معابد آمون – الإله المصري – وعندما زحف إلى بلاد فارس تبنى الممارسات الدينية الفارسية، ولما بلغ الهند اصطحب معه رجال الدين الهنود. وعندما ظهرت المسيحية، عم العالم دين كثير الأتباع، ومن فلسطين إلى روما إلى أوروبا ثم عاد مع بعثات التنصير إلى إفريقيا والشرق الأوسط (مع الحروب الصليبية). أما أتباع الديانة اليهودية فقد اختاروا العزلة والتقوقع والحياة في الأحياء المنعزلة المغلقة مع إصرار على أن يكونوا قوة فاعلة في العالم تهيمن على المال والقرار السياسي وتمركزوا في العواصم والمدن الكبرى في أنحاء العالم، ولم يكن لديهم طموح في دعوة الآخرين إلى دينهم أو إدخال الغرباء إلى طائفتهم. أما شبه القارة الهندية فقد شهدت انتشار الهندوسية، بينما انتشرت البوذية في الصين وجنوب شرقي آسيا واليابان. أما الإسلام فهو القوة الإقليمية والدين السائد في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.
ومنذ القرن الخامس عشر، بدأ الأوروبيون يناقشون تعاليم الكنيسة وموقفها من الفنون والعلوم، وبدأت سطوة الكنيسة تتهاوى من الناحية العقائدية وأصبحت ظاهرة ثقافية، وبدأت أعداد المترددين على الكنائس تقل تدريجيا، حتى اختفت هذه الظاهرة تماما في بعض بلدان العالم. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية شعر الناس في أوروبا برغبة في التخلص من سيطرة الدين ورجاله، ومع أن الدين أصبح قوة أيديولوجية إلا أن وقعها أصبح أقل. ومع ظهور الإنترنت أصبح مستخدمو هذه الشبكة العملاقة يناقشون بحرية كل ما جاء به السيد المسيح عليه السلام بل تعليمات بوذا. وأصبح الدين في أوروبا عاملا اجتماعيا والبوذية في آسيا ظاهرة روحية. أما اليهودية فقد ظلت أمرا شخصيا وظاهرة تدل على مجموعة متحدة وعقيدة لأعداد متناثرة ممن يعتنقون ''الإسرائيلية''. وبقي الإسلام وحده – برأي متابعي الأيديولوجيات – القوة الأيديولوجية البارزة.
وقد رد أتباع الديانات الأخرى على ما أسموه الإسلام الأصولي بأيديولوجيات تعتمد على تأجيج الصراع وتشجيع الاغتيال والتفرقة العنصرية والردود العنيفة وكل ذلك باسم أديانهم. وفشل الجميع في اتباع المبادئ السامية وفضلوا عليها مبادئ الغاب. وهكذا نعيش بين نقيضين: عصر الوعي والإدراك الكبير وعصر الصراع الأيديولوجي.
الظاهرة الثانية: في هذا الصدد هي تلك الحروب التي تشنها قوى كبرى على دول أضعف وأصغر وذلك لاحتلال أراضيها أو الاستيلاء على مواردها أو إخضاع شعوبها أو كلها معا. والمعروف أن هناك إمبراطوريات توسعت عبر التاريخ وسيطرت على مساحات هائلة. فالإمبراطورية البيزنطية كانت تغطي مليوني ميل مربع من الأرض عام 550 ميلادية، والإمبراطورية العربية الإسلامية كانت تغطي 11 مليون ميل مربع عام 700 ميلادية والإمبراطورية المغولية كانت تسيطر على 25 مليون ميل مربع عام 1300 ميلادية وإمبراطورية مينج الصينية 7.5 مليون ميل مربع عام 1450 ميلادية والإمبراطورية العثمانية كانت تهيمن على خمسة ملايين ميل مربع من 1600 إلى 1900، وفي القرن الـ 20 كانت الإمبراطورية البريطانية تحتوي 35 مليون ميل مربع.
ومع بداية القرن الـ 21 تسيطر أمريكا على أكبر مساحة من الأرض ومعها نفوذ هائل يتمثل في التجارة والاستثمار الخارجي المباشر والسيطرة الإعلامية والمؤسسات الدولية وأسواق رأس المال ومبيعات المنتجات الأمريكية والخدمات. وبعد أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) قررت أمريكا تغيير سياستها والانقضاض على من اعتبرتهم أعداءها الصغار. وبلغت ميزانية الحرب الأمريكية عام 2003م 400 مليار دولار ما جعلها أكبر قوة في العالم، وتمتلك أمريكا كذلك 2450 منشأة عملاقة و2800 محطة توليد طاقة و55 ألف شبكة مياه ولديها 12 مليون حاوية بضائع ويزورها 500 مليون زائر سنويا، وتمتد حدودها إلى 95 ألف ميلا ويتداول فيها 11 تريليون دولار في أسواقها المالية، فهل يمكن لهذه الدولة أن تحمي نفسها من القوى الصغرى؟!! لقد أصبحت قدرة الدول الكبرى على شن الحروب كبيرة ومخيفة ومع ذلك فإن احتمالات خسارتها مثل هذه الحروب واردة دائما.
وهكذا نعيش بين نقيضين: عصر القوة العظمى وعصر انهيار القوى الكبرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي