نيران أزمة اليونان
من وجهة نظري أن أزمة اليونان المالية تعد من أكبر تحديات النظام العالمي الجديد منذ بداية الأزمة المالية العالمية وأكبر تحد للاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه. وبالنظر إلى الأحداث التي مر بها العالم منذ بداية الأزمة نجد أنها وإن كانت أحداثا تاريخية بثت كثيرا من الرعب في الأسواق العالمية, إلا أنها ـ من وجهة نظري ـ تعد أقل قلقا مما يحدث لليونان حاليا. المتابع للأحداث يرى حجم التأثير الذي يمكن أن يحدث إذا ما تفاقمت الأزمة على مستوى اقتصاد أوروبا بشكل خاص وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام بخلاف الأضرار السياسية التي يمكن أن يتكبدها الاتحاد الأوروبي جراء تدخل صندوق النقد الدولي في أزمة اليونان.
وعلى الرغم من تأثير الناتج المحلي اليوناني في مجمل الناتج المحلي لمنطقة اليورو الذي يبلغ 3 في المائة فقط، إلا أن العجز في ميزانية اليونان 12.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، يمثل أكثر من أربعة أضعاف المسموح به في دول منطقة اليورو، ويصل حجم العجز إلى 300 مليار يورو، وهنا تكمن المشكلة في تغطية ذلك العجز بشكل لا يؤثر في التركيبة الاقتصادية لمنطقة اليورو. وعندما ضربت الأزمة المالية العالمية، لم تتعامل الحكومة اليونانية بشفافية, وتحديدا التلاعب في السجلات المالية لإخفاء حجم العجز في ميزانيتها، ولم تتضح الحقيقة إلا في وقت متأخر، ولعل هذا بعد آخر يجدر بنا التنويه إليه.
وعلى الرغم من سياسة ربط الحزام وعديد من إجراءات الحكومة اليونانية التقشفية، فإن المشكلة تحتاج إلى تعامل أكثر تشدداً من الاتحاد الأوروبي لضمان إيجاد حل فوري لمستحقات الديون اليونانية و أكثر أهمية التحكم في تأثيرات ذلك العجز خلال السنوات المقبلة بهدف الوصول بذلك العجز إلى المستويات المسموح بها في منطقة اليورو, وهي 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لليونان. كذلك فإن أزمة اليونان قد تكون شرارة لقائمة طويلة لدول أخرى تعاني عجزا كبيرا في ميزانياتها، مثل إسبانيا والبرتغال، لمخاطر كبيرة إذا لم تعالج أزمة اليونان بحسم، خصوصا أن الديون اليونانية هي غالبا لدائنين من داخل الاتحاد الأوروبي, خصوصا للاقتصادين القويين في المنطقة الألماني والفرنسي، أي أن إهمال الأزمة يحمل أضرارا متعددة على المستويين السياسي والاقتصادي داخل منطقة اليورو.
و بالنظر إلى الحول المتاحة أمام الاتحاد الأوروبي لمعالجة الأزمة، فإن أحلاهما مر، فأما التدخل لمساعدة اليونان على الوفاء بالتزاماتها قد يدفع مزيدا من الدول إلى طلب ذلك التدخل ومن ثم تحمل أعباء سوء الإدارة الاقتصادية لدول أخرى داخل الاتحاد الأوروبي, وهي كما ذكرنا عن إسبانيا والبرتغال, أو خروج مشكلات مماثلة في دول أخرى وتحديدا الدول حديثة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو - من وجهة نظري - احتمال وارد جداً, خصوصا إذا استمرت التوقعات بتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي فترة أطول. ومن جهة أخرى، فإن ألمانيا و فرنسا غالبا هما اللتان ستتحملان أعباء أي تدخل لحل الأزمة اليونانية، لكن إلى متى سيستمر التدخل و إلى أي حد؟ هو تحد آخر قد يؤثر بشكل سلبي في الاقتصادين الألماني والفرنسي، وعندها تحل الكارثة.
على الجانب الآخر، فإن تأخر الاتحاد الأوروبي في حل الأزمة اليونانية سيفاقم المخاوف من تأثيراتها في الاقتصاد الأوروبي، وسيفتح المجال أمام طريقة أخرى لمساعدة اليونان وتكمن في تدخل صندوق النقد الدولي لمساعدتها على النهوض من كبوتها؛ وطبعا على حلول صندوق النقد الدولي ما عليها من علامات استفهام خلال تاريخه وعلى النتائج التي يمكن أن يحملها هذا التدخل، إضافة إلى أن الحاجة إلى إنقاذ مالي دولي في منطقة اليورو تشكل حرجاً كبيراً لأوروبا, خصوصا لفرنسا وألمانيا.
الجانب الإيجابي الوحيد للأزمة اليونانية ذلك الهلع في أسواق العملات الذي دفع قيمة اليورو باتجاه الأسفل إلى مستويات لم يشهدها من فترة، الأمر الذي قد يساعد المصدرين في منطقة اليورو ويساعد الاقتصاد الأوروبي على تحقيق نمو أسرع مما كان متوقعا ومن ثم استعادة الثقة والخروج من النفق المظلم لأزمة اليونان، لكن أثر تراجع قيمة اليورو يستغرق شهوراً عديدة لكي ينعكس فعليا على اقتصادات دول اليورو .
أيا كانت النتائج، فإن منطقة اليور أمام تحد كبير، ولذلك فإن المستقبل يجب أن يكون أكثر جرأة في ربط اقتصادات الاتحاد الأوروبي بشكل أكثر تناغما فيما يخص ميزانيات الدول وأنظمة الضريبة، إضافة إلى إيجاد متابعة ورقابة مستمرة على الاقتصادات على مستوى عال من الشفافية للدول الأعضاء بما يضمن الانتباه المبكر لأي أزمة قادمة وعلاجها في وقتها قبل تكون كرة الثلج التي يصعب إيقافها أو إيقافها بتكاليف باهظة على جميع المستويات.