الجديد العلمي في العصف الذهني

ممارسو الإدارة الحديثة الذين يعلنون يوما بعد يوم دخولهم معترك الثورة المعلوماتية والانسياق خلف العولمة، بما تحمله من تداخل وانغماس في الأفكار وتصديرها لهم وعبرهم، في حركة بهلوانية لا يعرفها إلا المتمرسون وأصحاب المهارات العالية في المراوغة والإقناع وترسيخ القرارات والأفكار، يعلمون ماهية عملية العصف الذهني (Brainstorming) التي تشرد بمرتاديها إلى آفاق ذهنية عالية من الاستحثاث العقلي، فهي بمثابة تلاقح للمعلومات والأفكار المنطلقة ومن ثم سكبها في قوالب بعد تنقيتها من الزوائد والرواسب حسب رؤية موحدة أو انتهازية متسلطة نافذة. ما تعنيه هذه العملية الذهنية، كما تم الترويج لها لفترة، أنها من ضمن العمليات التي تسلط الضوء على الفكرة من خارج المربع، ولها دور مهم في المساعدة على انطلاق التطوير المستمر في خلقها لأجواء جماعية مشتركة، من أجل استجماع الآراء المشتتة ووضع النقاط على الحروف.
في نهاية شهر آذار (مارس) من هذا العام 2010، استنفر الباحث الأمريكي نيكولاس كوهن ورفاقه في جامعة تكساس أي آند إم (Texas A & M University) ، وأعلنوا بعد تجارب عدة على مجموعات متكونة من اثنين وثلاثة وأربعة مواضيع، مشككين في بحثهم بقدرة العصف الذهني في إخراج محتوى وقالب قوي من الأفكار المنضبطة والتامة التنفيذ لتلك المواضيع، من حيث تبين لديهم أن العمل الجماعي يُضعف مخرجات تلك المواضيع، ويؤدي إلى تدني استنطاق أفكار حديثة حولها مقارنة بمجموعات يتم استبعاد أفرادها عن بعض لفترات عصفية انفرادية، لأن الأمر يتمحور عادة حول فكرة واحدة تُطرح وتأخذ لنفسها مكانا مركزيا في مرحلة من المراحل النقاشية، حيث تجذب المشاركين في التركيز عليها والدخول في حوار استنساخي لها ولو بهيكلة مختلفة، لكنها تصبح لاحقا داعمة لها وموثقة لهدفها.
ومن خلال رؤية تحليلية؛ نلحظ أن هناك منعطفا مُجهِضا يؤثر في سير العملية التفكيرية للعصف الذهني، تقوم بإجباره واقتياده القيادة الإدارية لاتباع طريق محدد سلفا ونهايته وهدفه مرتهن انسياقا وتمسكا، فتُضعِف الفكرة المشعة الجاذبة مَا حولها من أفكار، نتيجة القوة والوضع النفسي الذي يحدث عادة في التجمعات لاختلاف المستويات والمهارات، وأحيانا يؤدي الضعف في إدارة اللقاء إلى الخروج عن المضمون وإضاعة الوقت، والذي له من التأثير الكبير في التململ من الانفلات المؤدي إلى سرعة الانتهاء، والركون إلى ما تم نشره وتمركزه وتعفير وتجاهل غيره للخلاص، أي أنها تكون ملتقى ترويجيا لأفكار ناقصة تحتاج إلى استطلاع سريع، تقوم عملية العصف تلك بصياغتها وتقويتها وترويض الأفكار المضادة الوحيدة الفريدة لها من خلال التبني الجماعي لها، وهذا ما يحدث في كثير من التجمعات والبيئات العملية السلطوية من استغلال تشوبه المصلحة وفرض القرارات وتصديرها بطريقة احترافية بمساعدة عملية العصف الذهني.
من المعيب في حياتنا العملية أننا لا نسعى كثيرا إلى صياغة أطر خاصة بنا مستقاة من النظريات والعمليات الإدارية الواردة إلينا من مؤسسات واستشاريين يبيعون أفكارهم إلينا بأثمان عالية، ولا نقوم بتحليلها وتجريدها قبل استخدامها وتجربتها ومحاولة زعزعة قواها لتحديد نقاط الضعف فيها، بل نقع كثيرا في فخاخ تجارب تنتهي بالفشل، يقوم المنظرون بتغطيتها ونسفها بإدخال عمليات أخرى على هيئة مراحل أخرى تطويرية استراتيجية تستدعي مواكبة المتغيرات، وقد تأخذ شكلا من أشكال الشهرة المفرغة من المحتوى.
فلا يمكن اتهام ما يتم من تطبيقات تطويرية في مجتمعنا بأنها من دواعي التجربة فقط، بل هناك شواهد كثيرة تحكي نتاجا تطوريا لاستخدامات ناجحة هدفها التطبيق الحقيقي للنظرية الإدارية العلمية المؤطرة بالتخطيط والتنفيذ، وداعمة للجوانب الإنسانية في تنمية الموارد البشرية على أكمل وجه، وفي المقابل هناك مواقع أخرى يشوبها التخبط والانفلات واستغلال النظريات بطرق ملتوية لا تؤدي هدفها الحقيقي. فالعصف الذهني الذي اتخذته كثير من التنظيمات العملية ضمن ممارساتها التطويرية، وأصبح نموذجا متكررا في التطبيقات، بدا في موقف تجريح وهدف لتحليل من أجل التطوير والتصحيح، فإنه يعتبر مثلا حيا يمهد الأرضية للأكاديميين والباحثين في علوم الإدارة في جامعاتنا ليصحوا ويخوضوا في حلحلة كثير من العمليات والنظريات الإدارية الواردة، والتي تبدو أنها مستعصية أو أنها ثابتة لا يمسها النقص، والتوجه لمساعدة المجتمع بكل مواقعه في تحسين أسلوب التعامل الإداري فيه وتنمية موارده، بدل التلقين التعليمي الذي للأسف ينهجه كثير من الأكاديميين، والذين لم نلمس منهم ما يذكر يفند أو يطور ما توصل إليه الآخرون، في حركة تطبيقية تكاملية تغزوا علنا المجلات والدوريات العالمية والتنظيمات العملية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي