انسحاب نتنياهو والكيل بمكيالين

تابعت مسألة انسحاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من مؤتمر الأمن النووي الذي عُقد في واشنطن يومي 12 و13 نيسان (أبريل) الجاري، وحجته في ذلك أن بعض الدول الإسلامية كانت ستستغل المناسبة لمهاجمة استمرار إسرائيل في امتلاك أسلحة ترسانة نووية غير مُعلنة، فضلا عن عدم توقيعها على اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية.
وقضية تملك إسرائيل الأسلحة النووية وإسدال ستائر الغموض عليها من أجل استخدامها كسلاح رادع قضية تفضح أصحابها بين فينة وأخرى. ونعني بأصحابها الشريكين إسرائيل والولايات المتحدة، وأقدم إسرائيل على الولايات المتحدة في هذه القضية لأن الكلمة الأولى هنا لإسرائيل بشأن ما يُقال وما يُحجب، وما على الولايات المتحدة إلا تنفيذ إرادة إسرائيل بالحرف.
لقد تخيل نتنياهو أنه بعدم حضوره سيلغي ما يُمكن أن يُقال من جانب تركيا ومصر، وإن كانت مصر عادت لتخفيف لهجتها وتتحدث عن عدم النية في محاكمة إسرائيل أو فتح الموضوع بما يضايقها. ولكن الأمور تفلت من بين أصابع المجرم مهما كان، والحملة المستمرة التي تقودها إسرائيل ممتطية صهوة الحصان الأمريكي ضد إيران هي في الواقع تذكرة للجميع بأن هناك متهمين آخرين، ويعجب الجميع ما مصلحة الولايات المتحدة في أن تبقى إسرائيل بعيدة عن الإدانة والتفتيش والشفافية مع أننا نتحدث عن منطقة واحدة، إذا اشتعلت ستصيب الأسلحة النووية الجميع. السبب هو ما قلناه مرارا وقاله قبلنا من عرفوا المخطط الصهيوني بالغطاء الأمريكي، في أن تبقى قوة وحيدة في المنطقة تقودها وتسودها وتخيفها، مع ما يتبع ذلك من إهدار لهيبة الآخرين، بل تحويل بعضهم إلى طامع في الصداقة مع الدولة القوية كما ظهر لنا من عدة دول. لقد حاولت إسرائيل وفي عهد السماوات المفتوحة أن تبقى ترسانتها النووية سرا منيعا، والجميع يعرف أن ''ديمونة'' بالنقب هي أبشع بؤرة لإنتاج الأسلحة النووية، ومع ذلك لم نسمع من واشنطن أو من حماة السلام في الغرب أية مطالبة بتفتيش ديمونة أو الحديث عن عدم توقيع إسرائيل على اتفاقية الحد من الأسلحة النووية.
ولكن المثير للسخرية أن انسحاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، زاد القضية توهجا واشتعالا ولفت النظر على غير رغبة المخالفين (واشنطن وتل أبيب) إلى كمون خطر ماثل وداهم، بل وتأسسه ورسوخه دون شجب أو لوم أو توبيخ أو حتى مجرد الجعجعة الإعلامية، بينما تثور الدنيا وتقوم ولا تقعد لأن راعية الإعلام واشنطن لها موقف آخر، ولها أجندة أخرى مع الحليف الأبدي – إسرائيل.
والطريف أن انسحاب نتنياهو تحول على يد الإعلام الأمريكي وتابعه الإسرائيلي إلى قضية ساخنة، وأصبحت هي القضية الحقيقية وليس وجود الأسلحة النووية في إسرائيل بكثافة مخيفة واحتمالات مدمرة. وللتدليل على أهمية الانسحاب تنشر الصحف وتبث القنوات والمحطات اهتمام كلينتون وأوباما والإعلام الغربي بانسحاب رئيس وزراء إسرائيل والأمين العام للأمم المتحدة الذي قال بحكم منصبه إن جميع الدول يجب أن توقع على معاهدة الحد من الأسلحة النووية، لأنه التزام دولي على جميع الأعضاء.
وإمعانا في التمويه وتحويل الأنظار تنشر صحافة المعسكر الأمريكي – الإسرائيلي أن عدم ذهاب نتنياهو يرجع إلى خلافات أمريكية – إسرائيلية حول بناء المستوطنات. ونسي هؤلاء أن الملف الإسرائيلي – الفلسطيني – الأمريكي حافل بأمور كهذه. ولكن المطلوب إعلاميا هو تشتيت الأذهان عن الحالة النووية لإسرائيل في المناسبة الوحيدة التي جاءت لمناقشة الموضوع عالميا. والهدف الأصلي من عقد المؤتمر وهو كما قال بين رودس نائب مستشار الأمن القومي، ''مؤتمر يركز على تأمين المواد النووية الخطرة والتي يمكن نقلها أو سرقتها أو تداولها''.
وقالت واشنطن صراحة ''إن المؤتمر لا يمس من بعيد أو قريب التزام أو انتهاك إسرائيل أو نيتها أو عدم نيتها التوقيع على معاهدة الحد من الأسلحة النووية. فالحليف الكبير قد مهد الطريق بكل السبل لطمأنة إسرائيل، كما نجح الحليف الكبير في الضغط على مصر وما زال يمارس ذلك على تركيا للوصول إلى ما تريده إسرائيل، وإقرار السكوت وتكريس سياسة الغموض النووي التي تنتهجها إسرائيل.
ومع الخبرة بالأساليب الأمريكية التي تجيد إلقاء الحجارة على الآخرين من خلال الحملات الإعلامية المدعومة باللوبي الصهيوني إلا أن الحقائق لديها عادة مُزعجة في البروز والظهور إما من خلال مناسبات أو مواقف وهو ما حدث تماما في الحالة الراهنة.
ونذكر أن أمريكا سحقت شعبا كاملا من على سطح الأرض ونهبت وطنه، دون أن تتعرض لحملات من أحد، بل أمطرت العالم بعشرة آلاف فيلم عن البطل الغربي القوي الوسيم العادل ضد الهندي الهمجي المتخلف. فوقر في أذهان الكثيرين أن الحضارة هي الفائزة، ولم نسمع عن تعويضات تدفع لأحفاد هؤلاء، لأن معظمهم مات وقُتل، وأما الزنوج الذين قُتل 70 مليونا منهم أو اُستعبدوا في مزارع القطن والذرة والطباق، فلم يتم تعويضهم، ونحن لا ننسى الحماس الأمريكي والعدالة السريعة في إعادة '' حقوق '' اليهود التي اغتصبها هتلر أو حتى المصارف السويسرية. وعلى النمط نفسه يجرى التعامل الإعلامي مع الترسانة اليهودية الفاجرة الظاهرة بالتجاهل الذي لا ينطلي إلا على الجهلاء. وتوجيه اللوم الشديد نحو أطراف، قد لا تكون من الملائكة، ولكنها لا شك أقل من الشيطان الذي اختطف الأرض ويكرس ذلك بالقوة ومضاعفة النفوذ.
إن الشيء الوحيد المحتم هو قيام دول عديدة في الشرق الأوسط – وليس إيران فقط – بتطوير قدراتها النووية. لأن منطق البقاء يفرض عليها ذلك.
وقد صدق زهير بن أبي سلمى عندما قال:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم

وأحمد شوقي عندما كتب لابنته:
فخذ هاك بندقة نارها سلام عليك إذا تسعر
فمن يعدم الظفر بين الذئاب فإن الذئاب به تظفر

إن أبجديات الحق هي أن تحاول واشنطن تحرير المنطقة بأكملها من الأسلحة النووية، هنا ستتمتع بدعم الجميع في المنطقة وخارجها، ولكن إصرارها على حماية إسرائيل لن يزيد الجميع إلا كراهية لها وحرصا على دحض ممارساتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي