..وظهر القراصنة من جديد
أينما وجدت الفريسة جاء المفترس، وحيثما ترتع الحيوانات العاشبة من غزلان وأبقار وأغنام وغيرها وجدت الأسود والنمور والضباع والذئاب وغيرها من آكلي اللحوم، ومع انطلاق السفن التجارية تمخر عباب الماء في بحار لا تتمتع بالحماية، انطلق القراصنة في موجة جديدة مع الألفية الثالثة.
ونحن جميعا على ألفة بقصص القراصنة التي كانت تشحذ الخيال وتطلق العنان لعالم المغامرات والمجهول. وأذكر أن ''قرصان الكاريبي'' يُعد من أكثر الأفلام اجتذابا للمشاهدين، لأنه يسجل قصة واحد من قراصنة نصف الكرة الغربي، حيث هرع القراصنة إلى سفن إسبانيا والبرتغال التي صالت وجالت في غرب الأطلنطي وشرق الهادئ تنهب ذهب المايا وغيرها من قبائل أمريكا الجنوبية. وحملته إلى أوروبا لتمول الصناعة في ألمانيا وبريطانيا وبذلك كانت الأموال المسروقة هي رأسمال النهضة الأوروبية والتي واصلت مسيرتها الإجرامية بحركة الاستعمار.
لم يترك القراصنة لأحد فرصة الاستمتاع بمفرده بالمجوهرات والذهب فهاجموا السفن وأغرقوا مئات منها وسرقوا مثلها، وكان مصيرهم دائما الموت أو الهلاك المعنوي. وعلى الساحل الإفريقي الشرقي والغربي ظهر قراصنة آخرون على غرار الكابتن كيد الذي أمسكت به البحرية البريطانية وحُكم عليه بالإعدام وبقيت جثته معلقة على مدخل نهر التيمز لبضع سنوات بعد حفظها بالقطران والشحوم وكيماويات التحنيط واحتوائها في قفص حديدي. وكذلك الكابتن بلاك بيرد أو اللحية السوداء أو الكابتن بارثلميو وغيره ممن صالوا وجالوا في القرنين الثامن والتاسع عشر. ومن نسي قرصاني الجزائر الشقيقين عروج وخير الدين برباروسا اللذين حكما الجزائر لسنوات طويلة، هذا غير قراصنة بحر عمان وبحر العرب والجزر الإندونيسية الذين كانوا يترقبون ثروات الهند وجزر الهند الشرقية من الذهب والتوابل وثروات المهراجات.
ومع انتشار البلطجة الدولية على يد الولايات المتحدة وإسرائيل، كان لا بد أن يستيقظ العنف البحري بعدما انهارت المعايير وتداعت قيم احترام الإنسان وأصبحت القوة سبيل السلب والنهب والغزو والقتل. من هنا قُدر لدولة ممزقة من دول القرن الإفريقي أن تكون مصدرا لحركة القرصنة الجديدة في خليج عدن، ولا ينبغي أن ننسى حركة القرصنة التي أوجدتها حرب فيتنام بين فيتنام وتايلاند ولاوس وبورما، إن ما يعنينا الآن هو نمو القرصنة البحرية في بحر العرب وعلى سواحل الصومال التي تعرضت لأبشع مؤامرة دمرتها كدولة مركزية قوية. وهذه المنطقة هي ممر بحري رئيس بين آسيا وأوروبا وإفريقيا.
ويقوم القراصنة بدورهم التقليدي في مطاردة السفن التجارية التي تحمل بضائع ثمينة إما لسرقتها مباشرة أو الحصول على فدية. وهذا النشاط الإجرامي يعود بالخسائر الفادحة على أصحاب السفن. وتقدر الإحصائيات أن ثلث عمليات القرصنة في العالم تقع الآن في خليج عدن والساحل الصومالي. ففي عامي 2008 و2009 وقعت 250 حادثة اعتداء قرصاني على السفن ونجح القراصنة في 82 حالة في أن يستولوا على السفن وقيادتها إلى أماكن مجهولة.
وبديهي أن هذه الصناعة الجديدة لها عدة متطلبات كي تنجح فهي تحتاج إلى بحارة مهرة وخبراء اختطاف ومناطق للإخفاء والتخفي ومعدات للاتصال بين خاطفي السفن وبعضهم بعضا وبينهم وبين أصحاب السفن للمساومة, وتتميز صناعة القرصنة الحديثة بعدة سمات هي:
- بنية تنظيمية مستقرة ويفضل أن تكون داخل دولة منهارة مثل الصومال.
- القرب من البحار.
- معاناة اقتصادية شديدة للحصول على عمالة على استعداد للموت مقابل الحصول على ما يسد رمقهم.
- القدرات التقنية الخاصة بالملاحة والاستطلاع البحري.
- الربحية الاقتصادية.
وتتضمن عملية السيطرة على سفينة تجارية ثلاث مراحل:
الأولى: تعرف القراصنة على الهدف واتخاذ قرار حول قيمة الجائزة من خلال إمكانات الاستخبارات لديهم. وهذا العمل يتطلب قدرات رصد (رادار)
على المدى البعيد وقدرة استطلاع للمسافات القصيرة.
الثانية: يحتاج القراصنة إلى وسائل نقل تمكنهم من الانقضاض على فرائسهم.
وقد أفادت بعض السفن التي وقعت في طريقهم، أنهم يستقرون فوق
سفينة قيادة مجهزة على أعلى مستوى من التقنية وإمكانات الاستطلاع.
وبعد اجتياز الهدف تنطلق الزوارق السريعة نحو السفينة المنكوبة. ومن هذه القوارب يهدد القراصنة ملاحي السفينة بما يحملونه من أسلحة مضادة للدبابات والأسلحة الخفيفة، وفي بعض الحالات تلتصق الزوارق بالسفينة ويصعد القراصنة إلى السفينة التجارية. وعادة ما يكون عدد القراصنة أكبر من الملاحين، ولم يحدث أن قاومت السفن أو رفضت التهديد.
الثالثة: أما المرحلة الثالثة فهي نقل السفينة إلى مكان ''آمن'' وخفي، وتبدأ المفاوضات مع أصحاب السفينة حتى يتم تسلم الإتاوة أو الفدية. وحتى نفهم كم هي معقدة تلك العملية نتذكر ما حدث للسفينة السعودية ''سيريوس ستار''، وهي الناقلة التي اختفت في المحيط الهندي في 18 من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2008 قرب سواحل شرق إفريقيا، وكانت حمولة السفينة 300 ألف طن ومع ذلك أخفاها القراصنة ثلاثة أشهر حتى تم دفع الفدية، وقد رأى أصحاب السفينة أن دفع الفدية أهون من خسارة نفط ثمنه 100 مليون دولار إلى جانب ثمن السفينة.
أدى تكرار هذه الحوادث إلى تضافر جهود الحكومات والشركات الكبرى والمنظمة العالمية للبحرية وشركات التأمين الكبرى التي نالها قسط كبير من الخسائر، لكي تتصدى للمشكلة. ومما يجعل قراصنة المحيط الهندي والساحل الصومالي خطرا حقيقيا أن ما لا يقل عن 16 ألف سفينة تمر سنويا بهذه المنطقة التي يغشاها القراصنة. والبحر هو أهم ساحة للنقل وهو شريان كل شيء، فالحرب والتجارة والدبلوماسية والغزو تمت عبر التاريخ من خلال البحار والدول البحرية هي التي سادت العالم، ومع بروز الطيران إلا أن الحمولات التي يمكن للطائرات نقلها أقل وأكثر تكلفة من حمولات السفن.
ومما يجعل لعبة القرصنة شديدة الإغراء كثرة الطرق البحرية وصعوبة تغطيتها عسكريا وتأمينها ضد السرقة، فضلا عن سهولة ضبط السفن والاستيلاء عليها والقدرة على إيقاع ضرر بالغ بصاحب السفينة مما يجعله يرضخ للخاطفين ومما يترتب عليه كوارث اقتصادية. ولعل أكبر من يعاني من القراصنة دولة مثل مصر التي تعتمد على قناة السويس كمصدر دخل أساسي لها، وبما أن معظم السفن القادمة إليها أو المغادرة منها ستمر على خليج عدن، فهي بذلك في خطر يجعلها تفكر في الابتعاد عن القناة مع ما يعنيه ذلك من خسائر لمصر.
ولكن نظرا لأن الظاهرة تصيب الجميع فقد اتحدت الإرادة الدولية على توجيه ضربات قاصمة للقراصنة، كتلك التي وجهها القائد الروماني بومبي لقراصنة شرق البحر الأبيض أو التي وجهتها البحرية البريطانية لقراصنة الأطلنطي والهندي في القرون 17، 18، 19، أو تلك التي قامت بها الصين والهند واليابان ضد قراصنة آسيا. وحتى يحين موعد الهجوم الفعلي هناك اتفاقيات للتنسيق بإرسال سفينة حربية للمنطقة من جانب عديد من الدول، فضلا عن قرار مجلس الأمن رقم 1383 في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2008 بإنشاء قوة مشتركة لقتال القراصنة، إلى جانب قرار روسيا عام 2008 بإرسال قوة عسكرية للمنطقة.