القيادة الإدارية على طريقة أردوغان
لم يعد ملائماً في هذا المقام تكرار الحديث عن القيادة وخصائصها .. وسمات القائد.. والاختلاف بين القيادة والإدارة والقائد والمدير، وهل القائد يولد أم يصنع أم يولد ويصنع معاً.. فالحديث عن القيادة للمهتمين بالإدارة والممارسين لها أصبح مملاً ورتيباً لأقصى درجة, ولم يعد الحديث في هذا المجال يحرك ساكناً. وبعد سنوات طويلة من إسهال الكتابة في القيادة والحديث عن أهميتها في مؤسساتنا والتأكيد على اكتساب مهارات القيادة ما زلنا لا نرى في مؤسساتنا قادة ولا نستشعر بين جنباتها مواقف القيادة. وما زال الرؤساء والمديرون في مؤسساتنا منقسمين إلى فريقين، فريق يمارس هوايته المفضلة في التحكم والسيطرة وممارسة فنون الإدارة بالجزاءات والخصومات ... إلخ. وفريق آخر باع القضية .. يفضل أعضاؤه تناول شاي الصباح في وقت الظهيرة ليبدأ بعدها العمل الشاق بمشاهدة التلفاز وتصفح الإنترنت وقراءة الصحف والحديث في الجوال ومتابعة مؤشرات البورصة.. ما أسهل الكلام في مجتمعاتنا العربية وما أصعب الفعل. لم أخطط اليوم للكتابة عن القيادة لكن لفت انتباهي خطاب «رجب طيب أردوغان» عقب الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على أسطول الحرية, الخطاب كان قوياً كالعادة ولا يخلو من كلمات ومعاني التحذير والإنذار، الرجل يتمتع بكاريزما خاصة صنعت له قبولاً لدى الناس, وزاد هذا القبول مواقفه السياسية المعروفة. بعد انتهاء الخطاب وجدت نفسي وبشغف شديد أذهب للإنترنت بغية التعرف على شخصية هذا الرجل وتاريخه وقيمه وثوابته، عدد ضخم من الملفات والمقالات والأخبار تتعلق بالرجل, لكن هناك سطوراً استوقفتني تماماً وأجبرتني على إعادة قراءتها مرات ومرات، تتحدث السطور عن أحد المواقف التي واجهت أردوغان عندما كان عمدة لمحافظة إسطنبول، في إحدى خطبه قال أبياتا من الشعر ألهبت مشاعر الناس ووضح فيها التوجه الديني في دولة تطبق مبادئ العلمانية .. تم اتخاذ قرار باعتقاله وذهب مناصروه لوداعه، حدثهم قائلاً: «وداعاً أيها الأحباب سأقضي وقتي خلال هذه الشهور في دراسة المشاريع التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة التي ستكون ـ إن شاء الله ـ أعواماً جميلة، سأعمل بجد داخل السجن وأنتم اعملوا خارج السجن كل ما تستطيعونه، ابذلوا جهودكم لتكونوا معماريين جيدين وأطباء جيدين وحقوقيين متميزين، أنا ذاهب لتأدية واجبي واذهبوا أنتم أيضاً لتأدوا واجبكم، أستودعكم الله وأرجو أن تسامحوني وتدعوا لي بالصبر والثبات, كما أرجو ألا يصدر منكم أي احتجاج أمام مراكز الأحزاب الأخرى وأن تمروا عليها بوقار وهدوء, وبدل أصوات الاحتجاج وصيحات الاستنكار المعبرة عن ألمكم أظهروا رغبتكم في صناديق الاقتراع القادمة». في لحظات خاطفة تداعت إلى ذهني كل معاني القيادة التي قرأناها وكتبناها وسمعناها. عبرت تلك الكلمات التي قالها أردوغان لأنصاره عن القيادة كما لم تعبر عنها مئات الكتب وبرامج التدريب. الكلمات اشتملت على الرؤية التي هي أساس القيادة فكيف ترغب في أن يتبعك مرؤوسوك وأنت لا تقدم لهم هدفا واضحا يسعون إليه معك لتحقيقه؟ الرجل يصنع رؤية للآخرين وهو يتجه للسجن! والمديرون في شركاتنا ومؤسساتنا أحرار طلقاء ولا يرون أكثر من موضع أقدامهم. في السجن لا مكان للتنفيذ, لكن هناك فرص كبيرة للتخطيط, القائد يخطط والأتباع ينفذون والكل يؤدي واجبه.. وفي مؤسساتنا لا وقت للتخطيط «وكل واحد يدبر حاله» .. القائد يطلب من أتباعه أن يسامحوه .. يطلب منهم الدعم والمساندة والمشاركة - من يعرف مديراً في مؤسسة قال لمرؤوسيه «سامحوني» عليه الاتصال بكاتب المقال لتوثيق الحدث - يوجه القائد أتباعه نحو سلوك معين مرغوب يسهم بشكل مباشر في تحقيق الرؤية «إظهار الاحتجاج في صناديق الاقترع» .. في شركاتنا ومؤسساتنا بشر يتحركون في كل اتجاه وكثير من التحركات لا تسمن ولا تغني من جوع .. خرج القائد من السجن وشارك أتباعه في تحقيق الرؤية المتفق عليها وبعد أن كانت إسطنبول تعاني ديونا بلغت ملياري دولار أصبحت تحقق معدل نمو 7 في المائة، وقدم بصفته قائد القدوة لأتباعه في رفض رشا وعمولات شركات أجنبية سعت إلى الحصول على امتيازات خاصة في تركيا، وفي غضون سنوات تحولت تركيا إلى قوى اقتصادية وسياسية مؤثرة للغاية في المنطقة.. وفي الوقت الذي ترضخ فيه كثير من الشركات والمؤسسات في مجتمعاتنا تحت وطأة الديون, نجد المديرين الأفاضل منشغلين بالبورصة .. ومنهم من يرتب لحضور برنامج تدريبي في القيادة طلباً للاستجمام والراحة من البورصة وألاعيبها.