عندما تكون الديون السيادية مترابطة مع أزمة البنوك الأوروبية!
كما يشرح مارفين كينج من بنك إنجلترا، فإن السلطات كانت تشعر بأنه ينبغي عليها أن تعمل على المدى القصير بشكل مناهض تماماً لما كانت في حاجة إليه على المدى البعيد، فكان عليها ضخ كثير من الائتمان واستبدال الائتمان الذي اختفى, وبالتالي قامت بتعزيز الائتمان الزائد الذي سبب الأزمة في المقام الأول. فقط على المدى الطويل عندما تخمد الأزمة يمكن لهم أن يستهلكوا الائتمان ويعيدوا تأسيس التوازن على المستوى الاقتصاد الكلي.
وتطلّب هذا مناورة ذكية من مرحلتين: فتماماً كما في حالة السيارة التي تزحلق فعليك أن تديرها باتجاه الزحلقة ولا تقوم بتصحيح المسار إلا عندما تستعيد السيطرة عليها. والمرحلة الأولى من المناورة تمت بنجاح إذ تم تجنب الانهيار, غير أن الأسباب الجذرية لم تزل قائمة وعادت إلى الظهور مرة أخرى عندما بدأت الأسواق المالية بالتشكيك في قيمة ائتمان الدين السيادي. وهنا على وجه التحديد عندما احتل اليورو المسرح الرئيس بسبب الضعف البنيوي في دستوره. لكننا هنا نتعامل مع ظاهرة عالمية، ولهذا فإن الوضع الراهن هو نتيجة مباشرة للانهيار الذي حدث عام 2008. أما المرحلة الثانية من المناورة (إعادة الاقتصاد إلى خط جديد وأفضل) فهي تعاني مشكلات.
ويستحضر الوضع عقد الثلاثينيات، فالشكوك حول الائتمان السيادي تكمن في مواجهة التخفيضات في العجز في الموازنة في وقت من الممكن ألا يكون فيه النظامان البنكي والاقتصاد قويين بشكل كافٍ للعمل دون تحفيزات نقدية ومالية. وقد علّمنا جون كينز أن العجوزات في الموازنة ضرورية لسياسات التقلبات الدورية في أوقات انكماش الأسعار، مع أن الحكومات في كل مكان تشعر بأنها مجبرة لتخفيضها تحت الضغط من الأسواق المالية. وعندما تأتي العجوزات في وقت تضع فيه السلطات الصينية الكوابح، فإن من شأن ذلك أن يدفع الاقتصاد الدولي إلى تباطؤ. وأوروبا التي تحملت المرحلة الأولى بشكل جيد نسبياً هي الآن في مواجهة الضغوط بسبب المشكلات المتعلقة بالعملة الموحدة.
قبل كل شيء كانت عملة اليورو غير مكتملة، فقد أسست معاهدة ماستريخت لعام 1992 اتحاداً نقدياً، دون أن يكون هناك اتحاد سياسي. وامتلك اليورو بنكاً مركزياً مشتركاً, لكنه افتقد خزنة مشتركة، والدول الأعضاء تشترك بعملة مشتركة، لكن عندما يأتي الأمر للائتمان السيادي فكل دولة وحدها. وكانت هذه الحقيقة مخفية حتى وقت قريب عندما قبل البنك المركزي الأوروبي الدين السيادي لكل الأعضاء بشروط متساوية لشباك الخصم المخصص به. وهذا الإجراء سمح لكل الدول الأعضاء أن تقترض بسعر الفائدة نفسه مثل ألمانيا، والبنوك سعيدة لأن تجني عوائد على ما يفترض أن يكون أصولاً خالية من المخاطر, وذلك عن طريق تعبئة موازناتها بديون الحكومات للدول الضعيفة. هذه المواقف الآن تعرّض للخطر قيمة الائتمان لنظام البنوك الأوروبية، فمثلاً، تحتفظ البنوك الأوروبية تقريباً بما يقارب تريليون يورو من الديون الإسبانية, نصفها محتفظ به في البنوك الفرنسية والألمانية، ولهذا يمكن النظر إلى الديون السيادية الأوروبية على أنها مترابطة مع أزمة البنوك الأوروبية.. لكن كيف ظهر هذا الارتباط؟
إدخال اليورو عام 1999 أحدث تضييقاً أساسياً في فروق أسعار الفائدة. وهذا بدوره أنشأ فقاعات العقارات في دول مثل إسبانيا واليونان وأيرلندا. وبدلاً من التقارب المنصوص عليه في معاهدة ماستريخت، نمت هذه الدول بشكل أسرع وطورت عجزاً تجارياً في منطقة اليورو، في حين ضبطت ألمانيا تكاليف اليد العاملة فيها وأصبحت أكثر قدرة على المنافسة وطورت فائضاً تجارياً مزمناً. وما زاد الطين بلة، أن بعض هذه البلدان، وعلى الأخص اليونان، عملت بعجز في الميزانية تجاوز الحدود التي تفرضها معاهدة ماستريخت، لكن وسيلة الخصم في البنك المركزي الأوروبي سمحت لها بمواصلة الاقتراض بمعدلات عملياً بمعدل ألمانيا نفسه، وإعفائهم من أي ضغط لتصحيح تجاوزاتها. والتذكير الواضح الأول، أن اليورو ليس له خزانة مشتركة جاء بعد إفلاس بنك ليمان. ووعد وزراء مالية الاتحاد الأوروبي بألا يسمح لأي مؤسسة مالية كبيرة بأن تفشل في الدفع، لكن ألمانيا عارضت ضماناً مشتركاً في جميع أنحاء أوروبا، وكان على كل بلد الاعتناء بمصارفه المصارف.
في البداية، كانت الأسواق المالية معجبة بالوعد الذي أطلقه وزراء مالية الاتحاد الأوروبي بحيث بالكاد لاحظوا الفرق. فرأس المال هرب من البلدان التي لم تكن في وضع يمكنها من تقديم ضمانات مماثلة، غير أن الفرق في أسعار الفائدة على الديون الحكومية في منطقة اليورو لا تزال ضئيلة، وكان ذلك عندما دخلت بلدان أوروبا الشرقية, ولا سيما هنجاريا ودول البلطيق في الصعوبات, وكان لا بد من إنقاذها. في هذا العام فقط بدأت الأسواق المالية تبدي قلقاً من تراكم الديون السيادية في منطقة اليورو. وأصبحت اليونان محور الاهتمام عندما كشفت الحكومة المنتخبة حديثاً النقاب عن أن الحكومة السابقة كذبت، وأن العجز لعام 2009 كان أكبر بكثير مما هو مذكور.
وبدأت الفروق في أسعار الفائدة في الاتساع, لكن السلطات الأوروبية كانت بطيئة في الرد, لأن الدول الأعضاء كانت لها وجهات نظر مختلفة جذرياً. وكانت ألمانيا (التي عانت مرتين من التضخم) حساسة من تراكم الضغوط التضخمية, في حين كانت وفرنسا وغيرها من الدول أكثر استعداداً لإظهار تضامنها. ولأن ألمانيا كانت متجهة إلى الانتخابات فلم تكن راغبة في العمل, لكن لا يمكن القيام بشيء من دون ألمانيا. ولهذا تفاقمت الأزمة اليونانية. وعندما قامت السلطات بالعمل معاً فكان أن قدمت حزمة إنقاذ أكبر بكثير مما كان من الضروري لو أنها تصرفت في وقت سابق. وفي غضون ذلك انتشرت الأزمة إلى بلدان العجز الأخرى، ومن أجل طمأنة الأسواق اضطرت السلطات إلى وضع صندوق لتحقيق الاستقرار بمبلغ 750 مليار يورو شاركت فيها الدول الأعضاء بمبلغ 500 مليار في حين شارك صندوق النقد الدولي بمبلغ 250 مليار يورو.
ولا تطمئن الأسواق لأن شروط الصندوق، أي الظروف التي يعمل بها الصندوق تمليها ألمانيا، ولا يضمن التمويل بشكل مشترك وإنما بشكل يجعل الدول الضعيفة في حقيقة الأمر ضامنة جزءاً من ديونها. وسيتم جمع التمويل عن طريق بيع السندات للأسواق والحصول على رسم فوق ذلك. لكن من الصعب أن نرى أن هذه السندات تستحق التقدير AAA. والمشكلة هي أن ألمانيا لا تصر فقط على الانضباط المالي الصارم للبلدان الأضعف, لكن أيضاً أن تخفض هذه الدول عجزها المالي. وعندما تخفض جميع البلدان العجز في وقت ترتفع فيه معدلات البطالة, فهي تجعل منحى دوامة الانكماش يتجه للأسفل. والتخفيض في حدة البطالة والإيرادات الضريبية والتصدير تعزز كل واحدة الأخرى, ما يضمن أن الهدف لن يتحقق وعندها سيكون مطلوب تخفيضاً أكبر. وحتى لو تمت تلبية أهداف الميزانية، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن للبلدان الأضعف استعادة قدرتها التنافسية وتبدأ بتحقيق النمو مرة أخرى؛ لأنه وفي حال عدم وجود انخفاض سعر الصرف عندها ستتطلب عملية التكيف تخفيضات في الأجور والأسعار؛ ما يؤدي إلى انكماش.
ويمكن القول إنه وإلى حد ما فإن الانخفاض المستمر في قيمة اليورو تخفف من الانكماش. لكن طالما انعدم النمو، فإن الوزن النسبي للديون سيستمر في الارتفاع. وهذا صحيح ليس فقط بالنسبة إلى الديون الوطنية, لكن أيضاً بالنسبة إلى القروض التجارية التي تحتفظ بها البنوك. وهذا سيجعل البنوك أكثر تردداً في الإقراض، ما يضاعف من الضغوط. واليورو هو بناء واضح العيوب, وهو الأمر الذي كان يعرفه مهندسوه منذ البداية, لكنهم توقعوا أن تصلح أخطاؤه في حال أصبحت هذه الأخطاء حادة بالعملية نفسها التي جلبت الاتحاد الأوروبي للوجود.
لقد تم بناء الاتحاد الأوروبي من خلال عملية هندسية اجتماعية بطيئة وتدريجية: بل هو على الأرجح الأكثر نجاح في مضمار الهندسة الاجتماعية في التاريخ. مهندسو اليورو أدركوا أن الكمال غاية لا تدرك، ولهذا وضعوا أهدافاً محدودة وجداول زمنية صارمة، كما قاموا بحشد الإرادة السياسية للمضي قدماً خطوة صغيرة، وهم على علم تام بأنه عندما يتم إنجاز المشروع فإن النقص فيه سيكون بادياً للعيان ويتطلب خطوات إضافية. هذه هي الطريقة التي وضعت فيها الدول الست المؤسسة لمجموعة الصلب والحديد الخطة التي تطورت تدريجياً لتصبح الاتحاد الأوروبي، خطوة بعد خطوة.
وتعودت ألمانيا أن تكون في قلب هذه العملية, فالدولة الألمانية تعودت أن تؤكد أن ليس لديها سياسة خارجية مستقلة غير السياسة الأوروبية. فبعد سقوط جدار برلين أدرك قادة ألمانيا أن الوحدة يمكن لها أن تكون متاحة فقط في سياق أوروبا موحدة وهم على استعداد لتقديم تضحيات كثيرة كي يضمنوا قبول أوروبا بذلك. وعندما يتعلق الأمر بالمفاوضات، فقد كانوا على استعداد للمساهمة أكثر بقليل إلى الوعاء والأخذ أقل قليلاً من الآخرين حتى يسهلوا الاتفاق. لكن تلك الأيام ولت، فألمانيا لا تشعر بأنها غنية جداً كما كان في السابق, ولا تريد أن تستمر في تقديم خدمات وكأنها المحفظة المملوءة لبقية أوروبا. وهذا التغيير في المواقف مفهوم, لكنه يوقف عملية التكامل. فألمانيا الآن تريد أن تعامل اتفاقية ماستريخت كمبدأ يجب أن يمتثل له دون أي تعديل، وهذا غير مفهوم, لأن ذلك في صدام مع الأسلوب التدرجي, الذي على أساسه بني الاتحاد الأوروبي. وبالتالي يمكن القول إن أمراً ما أصابه العطب في سلوك وموقف ألمانيا تجاه الاتحاد الأوروبي.
اسمحوا لي أن أشير إلى عيوب. فأكبر عيب في اليورو (عدم وجود سياسة مالية مشتركة)، معروف جيداً. لكن هناك عيباً آخر نال اهتماماً أقل: فكما حاولت أن أشرح في كتاباتي المختلفة فإن انهيار عام 2008 أثبت بشكل قاطع أن الأسواق المالية لا تميل بالضرورة نحو التوازن، وهي مرشحة لإنتاج الفقاقيع. ولا أريد أن أكرر هنا حججي لأنه يمكنك العثور عليها في محاضراتي التي نشرت في الآونة الأخيرة. فكل ما أود أن أذكر به الآن هو أن إدخال عملة اليورو خلقت فقاقيعها الخاصة بها في البلدان التي انخفضت فيها تكاليف الإقراض، وقامت اليونان باستغلال الوضع عن طريق ممارسة الخداع والغش، لكن إسبانيا لم تقم بذلك. فإسبانيا اتبعت سياسات على مستوى الاقتصاد الكلي وقامت بالاحتفاظ بدينها السيادي بمستوى أقل من المعدل الأوروبي وقامت بتقدم نموذج في الإشراف على نظامها البنكي. ومع ذلك تمتعت إسبانيا بازدهار في سوق العقارات, الذي انتهى انهياراً وأفضى ذلك بدوره إلى ارتفاع 20 في المائة في معدل البطالة. والآن فإسبانيا في حاجة إلى إنقاذ مدخرات البنوك والبلديات، لكن كل النظام البنك الأوروبي تأثر بشكل سيئ بالديون السيئة، وهذ الأمر لم تأخذه عملية اليورو في الحسبان.
وهنا أيضاً خلل بنيوي في عملة اليورو بكونها فقط محمية ضد خطر التضخم وليس ضد انكماش الأسعار، وفي هذه الحالة فإن المهمة الملقاة على عاتق البنك المركزي الأوروبي غير متوازنة، وهذا بسبب خوف ألمانيا من التضخم. وعندما وافقت ألمانيا على استبدال المارك الألماني بعملة اليورو أصرت على ضمانات قوية للحفاظ على قوة اليورو، وهنا احتوت اتفاقية ماستريخت على مادة تمنع بشكل واضح خطط الإنقاذ bailout, وتم التأكيد على هذا المنع في المحكمة الدستورية الألمانية. وهذا البند على وجه التحديد هو الذي جعل من الوضع الحالي من الصعب التعامل معه.
وهذا يقودني إلى العيب الأكبر في تصميم عملية اليورو، فهي لا تسمح بالخطأ. فهذا التصميم يتوقع من الدول الأعضاء أن تمتثل لاتفاقية ماستريخت, التي اشترطت ألا يزداد العجز في الموازنة على 3 في المائة, وألا تزيد المديونية الحكومية على 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، لكنها لم تقم بإنشاء آليات التعزيز الكافية. والآن, ولأن عدداً من الدول بعيدة عن معايير ماستريخت, فإنه ليست هناك آلية للتعديل أو الخروج، ويتوقع من هذه الدول أن تعود إلى معايير ماستريخت حتى لو أن هذه الخطوة تشعل انكماشاً مالياً. وهذا في صراع مباشر مع الدروس التي تعلمناها من الكساد العظيم الذي ضرب العالم في الثلاثينيات من القرن الماضي، وهو صراع أيضاً مرشح لأن يدفع عملة اليورو فترة طويلة من الكساد أو حتى أسوأ من ذلك. وهذا من شأنه أن يولد عدم رضا وتوتراً اجتماعياً ومن الصعب التوقع بكيف يمكن لهذا الغضب والإحباط أن يعبر عن نفسه.
وكما قلت في البداية، فإن ما نحتاج إليه هو مناورة من مرحلتين مشابهة لما قامت به السلطات بعد فشل بنك ليمان، فأولاً هناك حاجة إلى مساعدة أوروبا على الخروج من الصعوبات، وبعد ذلك مراجعة بنية اليورو وتقويتها. ولا يمكن لذلك أن يحدث دون قيادة ألمانيا، وأتمنى أن تنهض ألمانيا مرة أخرى لتقوم بمسؤولياتها بعد كل ما قامت به في الماضي.