اللوبي العربي أم اللوبي الصهيوني من قوَّض مصالح أمريكا في الشرق الأوسط؟
ربما يبدو الأمر غريبا، فعندما تُذكَر كلمة لوبي نتذكر فقط لوبي إسرائيل وقدرته على التأثير على مسار السياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط، أما أن يكون هناك لوبي عربي قادر على التأثير فهو أمر غير مستساغ أو لا يمكن تصديقه للوهلة الأولى. لكن واقع الحال ليس كما ذكر، فهناك بالفعل لوبي عربي تمكن من التأثير على سياسة أمريكا إزاء الشرق الأوسط ولو بدرجات متفاوتة وحسب الموضوع بطبيعة الحال.
صحيح أن الانطباع السائد في الشرق الأوسط يفيد بأن العرب غير مؤثرين، والبعض يكبت ويبكي حال الأمة العربية والمسلمة؛ لأنها لا تبذل الجهد الكافي للتأثير على الساحة السياسية في واشنطن، ويقول البعض لو أن العرب متحدون وغير منقسمين، أو لو أنهم يقاربون أمريكا كما تفعل الجالية اليهودية فإن حالهم كانت ستكون مختلفة بشكل يخدم قضاياهم المصيرية. غير أن كتابا جديدا صدر للتو يكشف عن ديناميكية مختلفة تجعلنا نعيد النظر في المقولات السابقة.
هنا نشير إلى كتاب حمل عنوان "اللوبي العربي: التحالف المخفي الذي قوَّض مصالح أمريكا في الشرق الأوسط" لمؤلفه ميتشل بارد والذي يؤكد فيه وجود لوبي عربي أقدم من لوبي إسرائيل، ويقول إنه فاعل ويؤثر على سياسة أمريكا، لكنه يرى أن التأثير سلبي؛ لأنه في نهاية الأمر يقوّض مصالح أمريكا، كما هو واضح من عنوان الكتاب المثير للجدل. فمؤلف الكتاب يريد أن يرد على كتاب آخر وضعه جون ميرشايمر وستيفن والت عن لوبي إسرائيل، وكيف أن تأثيره الزائد عن الحد أضعف من قوة أمريكا في العراق وفي الشرق الأوسط، وكيف أن تأثير لوبي إسرائيل لم يخدم مصالح أمريكا الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط. كتاب ميرشايمر ووالت صدر قبل عامين وأحدث ضجة كبيرة وتصدى له العديد من الكتاب اليهود في أمريكا واتُهِم صاحبا الكتاب بأنهما معاديان للسامية، التهمة المعلبة لإخراس أي صوت ينتقد إسرائيل.
المثير أن مؤلف الكتاب ميتشل بارد كان يعمل في منظمة الإيباك التي انتقدها كتاب ميرشايمر ووالت، فهي منظمة مؤيدة لإسرائيل والبعض يرى أنها مؤيدة فقط لليمين الإسرائيلي، وهنا نشير إلى ما كتبه يوسي بيلين الإسرائيلي في كتابه الأخير، وفيه يقول إن حكومة رابين الثانية كانت تسعى لشرح فوائد السلام في حين كانت منظمة الآيباك تسعى لشرح كيف أن صنع السلام ضار بمصالح إسرائيل وأمريكا. لهذا السبب يجب قراءة الكتاب مع الأخذ في عين الاعتبار أن المؤلف ليس محايدا وله أجندات واضحة بالرغم من صحة بعض الطروحات في الكتاب.
يقدم الكتاب مقارنات مهمة بين لوبي إسرائيل واللوبي العربي. فعلى العكس من اللوبي العربي، فإن لوبي إسرائيل يمثل منظمات ذات امتدادات جماهيرية يموله بعض من المواطنين الأمريكان الذين يعبرون عن تعاطف شديد مع إسرائيل وهم مسيحيون ويهود لهم اهتمام بموضوع واحد فقط وهو حماية العلاقة الأمريكية الإسرائيلية ودفع الإدارة الأمريكية والكونجرس لأخذ مصالح إسرائيل ـــ كما تراها تل أبيب ـــ في عين الاعتبار عند صياغة سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط. على العكس من ذلك، فإنه ليس هناك امتداد جماهيري للوبي العربي وهو لوبي يقسم جهوده لخدمة قضيتين هما النفط وفلسطين. والقضية الأولى، أي النفط، هي في غاية الأهمية ويقوم بإدارتها مجموعة أطلق عليها اسم مجموعة "دبلوماسية النفط" تتكون من عدد من الدبلوماسيين وضباط الاستخبارات والسياسيين وخبراء الدفاع. وتقوم شركات النفط وصناع الأسلحة وبعض منتجي النفط من العرب بتمويل هذا اللوبي الذي يتمتع برصيد كبير من الدعم المادي تفوق بكثير مبلغ الـ 60 مليون دولار موازنة الآيباك السنوية.
بطبيعة الحال تحتل قضية فلسطين مرتبة عالية على أجندات اللوبي العربي، خاصة على المكون العربي من اللوبي العربي، غير أن هناك انقسامات داخل هذا اللوبي تجاه هذه القضية، فكما أن هناك انقساما بين "فتح" و"حماس" فيما يتعلق بالتكتيك والاستراتيجية هناك انقسامات داخل لوبي العرب، فقضية فلسطين ليست هي العامل الرئيس الذي يوحد بين مكونات لوبي العرب. فما يوحد لوبي العرب ليس قضية فلسطين وإنما الاشتراك في المشاعر المعادية لفكرة الدولة اليهودية. لهذا السبب يصر مؤلف الكتاب على أن الاتحاد في فكرة المعادة لفكرة الدول اليهودية وليس بالضرورة الاتفاق على قضية فلسطين جعل من أجندات اللوبي العربي سلبية فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، فهي تهدف لتقويض علاقات أمريكا بإسرائيل، ونادرا ما يقوم اللوبي العربي بتقديم فكرة الدولة الفلسطينية كعامل استقرار إقليمي تسعى لتحقيق تنمية اقتصادية وعدالة. وهذا المكون من اللوبي العربي الذي يحاول تقديم أجندات إيجابية تهدف لخدمة قضية فلسطين هو مكون صغير من لوبي العرب كما يذهب إلى ذلك مؤلف الكتاب ميتشل بارد.
المفارقة أن اللوبي العربي لا يحقق إنجازات تذكر على صعيد قضية فلسطين، بينما يحقق لوبي إسرائيل إنجازات عديدة وكبيرة على صعيد قضية إسرائيل، غير أن اللافت أن لوبي العرب مؤثر جدا في صياغة سياسة أمريكا فيما يتعلق بقطاع النفط، وهي القضية التي برع فيها لوبي العرب، كما يذهب لذلك مؤلف الكتاب. فيجادل مؤلف الكتاب أن دور لوبي العرب هو الحفاظ على حالة من الإدمان الأمريكي على نفط العرب، وعلى إبقاء خطوط الإنتاج لصناع الدفاع مفتوحة، وعلى تلميع صورة الدول العربية حتى الدول التي "ترعى الإرهاب" على حد تعبير مؤلف الكتاب.
في الكتاب يعرج المؤلف على الدور السعودي في المعادلة، ويقول إن السعوديين يتعاملون بذكاء شديد مع الأمريكان لما يحقق مصالح الدولة السعودية، وتقوم السعودية باستغلال بعض المخاوف الأمريكية بشأن النفط على أحسن حال، فمثلا كانت السعودية تحمل تهديدا مبطنا بأنها ستتجه لبريطانيا بدلا من أمريكا أو الاتحاد السوفياتي سابقا بدلا من الولايات المتحدة، على الرغم من موقف السعودية التاريخي في معادة الشيوعية ومحاولة الحصول على السلاح الأمريكي للدفاع عن أراض المملكة في حال حصول تهديد سوفياتي. ويزعم مؤلف الكتاب أن السعودية توظف التهديد الإيراني بطريقة مشابهة للحصول على السلاح الذي يحتاجون إليه، وتبقى مهمة الإدارة الأمريكية إقناع إسرائيل بأن السلاح السعودي لن يؤثر على الأمن الإسرائيلي. طبعا يتناول الكتاب بضع تفاصيل العلاقة الأمريكية السعودية، ويرى أن لوبي العرب الممول جزئيا من المال الخليجي يعمل في الظلال وليس كما يعمل لوبي إسرائيل؛ إذ يعمل الأخير في العلن.
قصة لوبي العرب هي أيضا قصة حول الوضع في واشنطن وكيف أن مجموعة صغيرة ومؤثرة تحاول أن تطرح رأيا يرى أن ما يخدم أمريكا ومصالحها في الشرق الأوسط هو جعل الأغلبية العربية المسلمة سعيدة! لكن ميتشل بارد في انتقاده لدور لوبي العرب لا يكشف عن حقيقة موقفه من التأثير البالغ للوبي إسرائيل، خاصة عندما دفع الإدارات الأمريكية لتبني سياسات ـــ كان لوبي إسرائيل يرى أنها تخدم تل أبيب ـــ ألحقت ضررا بالغا في مصالح أمريكا في الأقليم وحول العالم. فالكتاب بهذا المعنى يحمل في ثناياه بروباجندا لخدمة موقفه المنحاز لإسرائيل، وفي الوقت نفسه يحمل إساءة مباشرة لدول المنطقة.
صحيح أن الكتاب يقدم توثيقا لكثير من مواقف وسياسات لوبي العرب، غير أن الكتاب برمته جاء في سياق الجدل العام الذي بات يأخذ زخما فكريا في السنتين السابقتين، وهنا نتحدث عن فيما إذا كانت إسرائيل ذخرا أم عبئا استراتيجيا على الولايات المتحدة، وربما علينا أن نشير إلى أن النخب الأمريكية المؤثرة بدأت تعيد النظر في موقف أمريكا من النزاع العربي الإسرائيلي. قبل أشهر عدة، قدم ديفيد بيترايوس شهادته أمام مجلس الشيوخ وفيها قال إن عدم حل الصراع العربي الإسرائيلي سيقوّض من قدرة أمريكا على تحقيق مصالحها في الشرق الأوسط.
لهذا السبب هب لوبي إسرائيل في تشويه المقولة وبالتالي المجادلة بأنه ليس هناك ربط على الإطلاق بين الصراع العربي الإسرائيلي والنزاعات الأخرى في الإقليم، بمعنى أن حل الصراع العربي لن يفضي إلى حل النزاعات الأخرى. طبعا هذه مقولة تسعى لثني الإدارة عن تبني فكرة الربط بين ملفات الصراع المختلفة في الشرق الأوسط؛ حتى لا تمارس أمريكا ضغطا على إسرائيل لتقديم تنازلات للعرب حتى يتحقق السلام.
بكلمة، الكتاب جدير بالقراءة وفيه الكثير من القصص والخفايا التي قد تفاجأ البعض، لكن في الوقت ذاته لا يمكن أن نغض البصر عن خلفية ميتشل بارد في الآيباك، ولا يمكن ألا نلاحظ أن الكتاب الذي حمل هجوما من نوع ما على دول خليجية لم يقم بالتطرق إلى حقائق أخرى ماثلة تناولها بعض المفكرين الأمريكان، خاصة فيما يتعلق بسياسة إسرائيل وحماية لوبي إسرائيل لها وكيف ألحقت ضررا بالغا بمصالح أمريكا في الشرق الأوسط.