هيئة الاستثمار .. أين الخلل؟ (2 من 3)
المدن الاقتصادية إحدى أبرز مبادرات الهيئة العامة للاستثمار التي لا تملك في الحقيقة أدنى فرصة للنجاح وفق نموذج الأعمال business model المطبق فيها حاليا. وكي نوضح خلل هذا النموذج, وبالتالي انعكاساته السلبية على فرص نجاح مشروعات المدن الاقتصادية في المملكة، فما علينا إلا أن نقارنه بنماذج ناجحة على مستوى العالم، التي يأتي على رأسها النموذج السنغافوري, الذي نجح في جعل سنغافورة واحدة من أكثر مناطق جذب الاستثمارات الأجنبية عالية النوعية في العالم.
رغم أن سنغافورة نجحت في أوائل الستينيات في استقطاب استثمارات من تايوان وهونج كونج أسهمت في خلق كم لا بأس به من فرص العمل للعمالة السنغافورية، إلا أنها حملت معها تقنية متخلفة وُظفت في الغالب في تصنيع ألعاب الأطفال والنسيج. ولم تكن هذه النوعية من الاستثمارات أو التقنية هي ما تسعى الحكومة السنغافورية إلى استقطابها من خلال سياسات تشجيع الاستثمار الأجنبي. لذا عندما عقدت سنغافورة العزم على أن تصبح واحدة من أبرز مناطق جذب الاستثمارات الأجنبية في العالم، أدركت مباشرة أنها في حاجة أولا إلى تطوير مناطق صناعية تمتاز ببنية تحتية عالية الجودة تتوافر فيها تسهيلات وخدمات مغرية جدا للشركات العالمية الرائدة. لذا قامت هيئة التنمية الاقتصادية EDB عام 1968 بإنشاء جهاز حكومي تابع لها سمته Jurong Industrial Estate ليتولى تطوير منطقة أحراش ومستنقعات جورنق لتصبح المنطقة الصناعية الرئيسة في سنغافورة، ثم حول هذا الجهاز في عام 1986 إلى شركة حكومية سميت شركة مدينة جورونق (Jurong Town Corporation (JTC لتتولى نيابة عن هيئة التنمية الاقتصادية مهام تخطيط وتطوير كل المناطق الصناعية في سنغافورة, التي يصل عددها حالياً إلى ما يزيد على 30 منطقة صناعية. وتشمل مهام هذه الشركة، إلى جانب إنشاء وتطوير البنية التحتية للمناطق الصناعية، مهام تطوير الأراضي لتكون جاهزة لإقامة مصانع عليها, إضافة إلى إنشاء مبان مجهزة تماما يمكن استخدامها مباشرة كمصانع، جميعها تباع وتؤجر للشركات العالمية الراغبة في الاستثمار في سنغافورة بأسعار رمزية متدنية جدا، ما مكن سنغافورة من استقطاب نحو ثمانية آلاف شركة متعددة الجنسيات اجتذبتها منافع ومحفزات مغرية عديدة لا تتوافر لها في أي مكان آخر في العالم.
ولنقارن هذا الوضع بالمدن الاقتصادية التي نفذتها الهيئة العامة للاستثمار، فنموذج الأعمال في هذه المدن لا يقوم على شركة حكومية, إنما شركات خاصة أنشئت لتطور وتدير هذه المدن، هدفها بالطبع تحقيق أكبر عوائد مالية ممكنة لحملة أسهمها، من ثم فإن نجاحها يعتمد على قدرتها على تحصيل أكبر قدر من الرسوم مقابل الخدمات والتسهيلات التي تقدمها للمستثمرين في المدن الاقتصادية، الأمر الذي ترتب عليه ارتفاع تكلفة الاستثمار في هذه المدن بشكل كبير بحيث أصبحت مناطق طاردة لا جاذبة للمستثمرين، فهي لا تستطيع حتى منافسة مدن اقتصادية أخرى مقامة داخل المملكة كالجبيل وينبع، ناهيك أن تستطيع منافسة سنغافورة أو شنغهاي أو حتى دبي.
الأمر الذي يظهر عدم استيعاب من قبل الهيئة لما يطلق عليه الاقتصاديون الآثار الخارجية النافعة positive externalities، ويقصد بها المنافع الإضافية المتحققة للمجتمع من نشاط وحدة اقتصادية ما، الذي يجعل العائد الاجتماعي من ذلك النشاط أكبر بكثير من العائد المادي المتحقق لتلك الوحدة بشكل مباشر، وهو وضع تفشل معه قوى السوق في ضمان إنتاج المستوى المناسب من السلعة أو الخدمة من خلال وحدات ربحية خاصة، ويصبح من الضروري أن يكون هذا الإنتاج من خلال وحدة حكومية أو على أقل تقدير بتمويل حكومي. وحيث يترتب على المدن الاقتصادية توفير فرص عمل عالية النوعية، نقل للتقنية المتقدمة، إنجاح لجهود تحقيق تنمية متوازنة، رفع لمعدلات النمو الاقتصادي، ومكاسب اقتصادية أخرى عديدة، فإن المدن الاقتصادية تمثل في الواقع حالة كلاسيكية لنشاط ذي آثار خارجية نافعة، ما يجعل من غير الممكن مطلقا إسناد نشاط إنشائها وتطويرها وإدارتها إلى شركات خاصة تستهدف تحقيق الربح المالي فقط، ويصبح من الضروري تقديم هذه الخدمات من خلال جهاز حكومي أو شركة حكومية، وهو ما يفسر قيام سنغافورة بتقديم خدمات إنشاء وتطوير وإدارة مدنها الصناعية من خلال شركة مملوكة للدولة وعدم إسنادها للقطاع الخاص.
والحقيقة أن عدم اختيار نموذج أعمال مناسب للمدن الاقتصادية لا يقتصر تأثيره السلبي على ما سيترتب عليه من فشل لمشاريع حيوية وضعت الدولة آمالاً كبيرة عليها, بل يتعداه ليتسبب في أضرار اقتصادية أخرى قد تكون أعمق وأشد تأثيراً. فعدم إدراكنا أن ما تعانيه هذه المشروعات من صعوبات حاليا سببه عدم ملاءمة نموذج الأعمال المطبق ولا يمثل وضعاً مؤقتاً تمر به هذه المشروعات قد يدفع الدولة إلى تقديم قروض ميسرة أو دعم مالي بسبب رغبة الحكومة في إنجاح هذه المشروعات الحيوية المهمة، ما يحولها إلى فيلة بيضاء White Elephants، وهي المشروعات الاستثمارية المفتقرة إلى الكفاءة التي عادة ما تقام في الدول النامية وتستطيع البقاء فقط بفضل الدعم الحكومي المستمر لها، الذي يتسبب بدوره في تدن مستمر في كفاءة أدائها، ويحولها إلى مشروعات مستنزفة لموارد الدولة كونها لا تملك أي مقومات للنجاح ذاتيا. كما أن فشل المستثمرين الذين شاركوا في اكتتابات مشروعات المدن الاقتصادية في تحقيق العوائد التي توقعوها من هذه الاستثمارات سيقطع الطريق أمام إطلاق مشاريع استثمارية ضخمة قد تكون مدروسة بعناية وتملك فرصا حقيقية للنجاح من خلال اكتتابات أولية، ما يحرم اقتصادنا الوطني من إمكانية الاستفادة من السيولة الضخمة المتوافرة حاليا بدلاً من اتجاهها للإنفاق الاستهلاكي الذي تسبب حتى الآن في ارتفاع كبير في معدلات التضخم، فالخسائر التي مني بها المستثمرون في مدينة رابغ الاقتصادية ومدينة المعرفة الاقتصادية تجعل من غير الممكن طرح بقية المدن الاقتصادية للاكتتاب وستُفقد الثقة بأي مشروعات استثمارية أخرى تطلق مستقبلا حتى لو لم تكن بمستوى ارتجالية مشروعات المدن الاقتصادية.
الأمر الذي يستدعي البحث عن مخرج سريع يصحح به هذا الوضع، في رأيي, أن أفضل خيار متاح هو أن تضم مشروعات المدن الاقتصادية إلى الهيئة الملكية للجبيل وينبع، ليطبق عليها نموذج الأعمال القائم حاليا في هاتين المدينتين, فهو نموذج مناسب ثبت نجاحه، ويعوض المستثمرين في المدن الاقتصادية التي طرحت حتى الآن في اكتتابات عامة، وفقاً للقيمة الحالية لأسهمهم في السوق المالية، أو وفقاً لقيمتها الاسمية كحد أقصى، وهذا حل مناسب جدا لحملة الأسهم كونه يجنبهم خسائر إضافية مؤكدة ستتعرض لها استثماراتهم في هاتين المدينتين إن بقي الوضع على ما هو عليه حاليا دون تصحيح.
للحديث بقية ..