الواقع لا يكذب ...

في البداية لابد لنا من الإقرار بأن ثقافتنا لا تحبب لنا الاقتراب من الواقع, فالواقع في تصورنا هو ذلك الحيز الزمكاني الذي يحوي كثيرا من السلبيات لا غير, فالغلبة في الواقع دائما للأفكار المنحرفة والبدع والنشاط الغوغائي, والواقع لا يركن له للكشف عن الحقيقة لأنه واقع مضطرب على الدوام وفي حالة تبدل وتغير باستمرار. هذا الخلل الثقافي في نظرتنا للواقع أدى بنا إلى أن نعيش بشخصية مزدوجة, فنحن نعيش الواقع ولكننا لا نريد الاعتراف به, فعناصر هذا الواقع لا تهمنا, والتحديات التي يحويها لا تعنينا, والمشكلات التي ينتجها لا نلتفت إليها, ومتطلبات هذا الواقع وخصوصياته لا نعتبرها ولا نأخذ بها. فهكذا ثقافة هي التي أنتجت لنا مفكرين يطرحون لنا حلولا إما مستوردة من الماضي وإما مقتبسة من الآخرين, إنها حلول لمشكلات لا نعيشها. وهذه الثقافة هي التي جعلت المفكر عندنا ينظر وهو يعيش مع نفسه ولا يعيش الواقع على حقيقته, وهذه الثقافة هي التي جعلت من مفكرنا ظاهرة صوتية, وانتهت بنا جميعا إلى أن نكون أمة صوتية, نفكر بعيدا عن الواقع ونتكلم بلغة لا يفهمها الواقع. أما على المستوى الإداري فهناك خوف وهلع وعدم ثقة كبيرة بالواقع, فالواقع في مفهومنا الإداري يقترن بالفوضى والفتن. ومثل هذا الفهم للواقع هو الذي جعلنا نمارس الإدارة على أنها سلطنة وتحكم, وليس هو مجال للإبداع في تنسيق الفعاليات والأعمال وممارسة حكيمة وفعالة لترشيد الموارد. بسبب هذه الثقافة صارت إدارتنا تتسم باللا فعالية لأنها لا تجيد التوثيق لما يدور في الواقع, ولا تؤمن بالتخطيط لتوجيه هذا الواقع, ولا تريد أن تشارك هذا الواقع في رسم صورة المستقبل. فإدارة تغيب الواقع ليس عندها ما تفعله لتغير الواقع إلى الأفضل, لأن ما ستنتجه من أفكار هي مجرد أقوال وتقارير ومستندات ومخططات ليس لها من الحظ والقدرة الذاتية على أن تعيش في واقع غير مستعدة له.
وهذا المرض الثقافي الذي أدى بمجتمعاتنا إلى أن تتعالى على الواقع وصل مفعوله حتى إلى فهمنا وفكرنا الديني, فبفضل هذه الثقافة التي تغمض عينها عن الواقع صرنا نخلق واقعا مزيفا في أذهاننا وفي ضوء هذا الواقع غير الموجود صرنا ننتج أفكارنا الدينية, فمرة نقول بجاهلية المجتمع ونأخذ بهذا القول حجة لنا في إنتاج فكر ديني متشدد في كل القضايا لنعيد الصواب إليه, حتى أوصلنا هذا التشدد إلى ظهور مظاهر عنف وإرهاب لا تنسجم وتعاليم الدين وأخلاقه. ومرة نحكم بدونية هذا العصر لصالح تقديس وتفضيل الماضي حتى صرنا أكثر أمم العالم تعلقا بالماضي, وبتنا نريد أن نستنسخ هذا الماضي بأفكاره وثقافته وعاداته وحتى بمشاكله وأزماته وعلاته, فعدم الأيمان بالعصر والحاضر الذي نعيشه أوصلنا إلى أن نستنسخ واقعا يحاكي الماضي بكل تفاصيله, وعندما يعيش أي مجتمع في مثل هذا الواقع ستكون بالتأكيد حركته إلى الوراء وسيعيش حالة من التقهقر والارتداد من سيئ إلى أسوأ حتى وإن اجتهد في أن يكون له غير ذلك. فالتفكير الديني من دون عودة الواقع إلى مكانه الطبيعي لا ينتظر منه أن ينتج لنا إلا فقها نظريا يزيد الحياة تعقيدا وإرباكا, بل إنه ربما يتسبب في تشويه تدين ذلك الإنسان والمجتمع. وتغييب الواقع في ثقافتنا ولد لنا شخصية أخلاقية منشطرة, شطر يردد ما تعلمه من أخلاق عالية, ويدعو بحماسة لاكتساب هذه الأخلاق والعمل على تفعيلها في الحياة والمجتمع, والشطر الآخر يعيش الحياة بعكس ما يدعو إليه الشطر الأول, فالشطر الأول يوجه خطابه إلى مجتمع أهل الجنة وأما الشطر الآخر فهو يعيش عيشة أهل النار.
حتى من أراد الإصلاح في الماضي والحاضر كانت مشكلته الرئيسة هي في عدم الاقتراب بالحد الكافي من الواقع, ولهذا كانت نتائج هذه الجهود أفكارا ورؤى ونظرات جميلة أكثر مما هي أعمال ومشاريع منجزة, بدليل أن الأمور ما زالت تسير إلى مزيد من التخلف. فلا إصلاح من غير مواجهة الواقع على حقيقته ومواجهة الواقع تتطلب منا الاقتراب منه لتشخيص ما عنده من مشاكل, والتعرف على ما يحويه من نقاط ضعف ومكامن قوة, ولكن هذا الاقتراب يتطلب جرأة فكرية وثقافية, لأن الاعتراف بالمشكلات والعيوب وعدم التحرج منها وإشهارها, والإعلان عن التصدي لها يفهمه البعض على أنه تشكيك بالمجتمع ومحاولة للإنقاص من قيمته. فكل محاولة للاقتراب من الواقع صار ينظر لها على أنها من باب جلد الذات الذي لا يزيد الأمر إلا سوءا, وأما الحديث عن المشكلات التي يحويها الواقع صار يتهم أصحابه بأنهم طلاب شهرة لا يرون إلا النصف الفارغ من الكأس, بل إن البعض يرى أن الحديث عن المشكلات هو نوع من أنواع الفتن التي يجب أن نقي المجتمع من شرورها. ففي هكذا أجواء ثقافية تريد إلغاء الواقع وتحذر الاقتراب منه هي بالتأكيد ليست بالبيئة المناسبة لشجرة الإصلاح. فستبقى المجتمعات العربية والإسلامية تتعثر في إصلاحها لنفسها ما لم تؤسس لهذا الإصلاح البيئة المناسبة التي تحيط بالواقع على ما هو عليه, إصلاح ينطلق من معرفة الواقع ويبني عمله على ما يحويه هذا الواقع من فرص وتحديات وعوائق.
كم من المشكلات التي هي موجودة ونعيشها ولا نريد الإقرار بها, في الماضي كنا لا نريد الحديث عن الفقر على الرغم من وجوده, ولولا زيارة خادم الحرمين الشريفين لأحد الأحياء الفقيرة في الرياض لبقينا نتحدث عن فقراء العالم ولا نذكر فقراءنا إلا في باب الأخلاق وعند الحديث عن مساعدة المحتاجين من عموم المسلمين. وبعد هذه الزيارة المهمة اجتهدنا كثيرا في التخطيط والعمل لمحاربة الفقر, ولكن سرعان ما وجدنا أن هذا الفقر يزداد ولا ينقص لا لقلة الموارد والجهود المخصصة لمحاربته بل لأننا فشلنا في تشخيص ظاهرة الفقر على حقيقتها في واقعنا, لم نعرف أن البطالة هي من الأبواب الواسعة التي يدخل الفقر منها, بقينا نناقش السعودة, منافعها ومضارها, وكأن المواطن السعودي هو من سنتفضل عليه ونستقدمه للعمل عندنا. وعلى الرغم من التأكيد للتجار ورجال الأعمال والشركات بأن السعودة ستكون تدريجية, وأنها ستبدأ باردة على قلوبهم ومخففة جدا وبحدود 5 في المائة, وفي قطاعات معينة ومحدودة, وأنها لن تسخن ولن تصل إلى نسب عالية إلا بعد سنين طويلة إلا أننا نجد هؤلاء التجار والشركات يتباكون على مستقبل الاقتصاد عندنا ويهددونا بالمغادرة مع رؤوس أموالهم إن تجرأنا في تطبيق هذه السعودة الخجولة, ولا ندري ماذا سنجني من هذه الأموال إذا لم يكن فيها نصيب لتشغيل المواطن؟ وعندما نحول السعودة إلى قضية معطلة لجذب الاستثمار وليس هدفا من أهدافه فيا ترى كيف سنستطيع أن نحاصر البطالة وأن نحجم الفقر عندنا؟
وعندما كنا لا نريد أن نعترف بأن التنمية غير المتوازنة مناطقيا هي بطبيعتها تنتج فقرا, فجهود خادم الحرمين الشريفين في إعادة التوازن للتنمية, وذلك من خلال مفهوم المدن الاقتصادية المتوزعة في أنحاء المملكة هي فرصة ليس فقط لمحاربة الفقر ومنعه من أن يتحول إلى ظاهرة, بل إن هذه الجهود تفتح لنا آفاق لمعالجة كثير من المشكلات التي قد تعوق من جهودنا التنموية. وإعادة التوازن للعملية التنموية هي عملية شاملة ومتكاملة تبدأ بتنوع الفريق الذي يخطط ويبرمج لمجموع المشاريع التنموية, لأن تنوع هذا الفريق هو الذي يضمن أن تأتي المشاريع متوازنة في توزيعها ومستجيبة لما يحويه واقع كل مكان ومنطقة من حاجات واستحقاقات.
أخيرا نعود مرة أخرى للتأكيد على أهمية ثقافة الواقع, فعلينا أن نربط فهمنا لكل مشكلة نواجهها بالواقع, فالواقع لا يكذب علينا ولا يجاملنا ولا يخفي عنا ما نحتاج إليه للتعامل مع هذه المشكلات. ولكن عندما نختار الابتعاد عن الواقع فإننا سنبقى نختلف: هل البطالة موجودة أم غير موجودة؟ وهل البيئة الاستثمارية الموجودة هي فعلا بيئة تجذب الاستثمار الحقيقي, أم أنها باتت بيئة تكرس للبطالة والمشاريع الوهمية أو غير المجدية اقتصاديا. أن بناء مملكة المستقبل هو ليس بالأمر الهين في ظل هذا الحراك الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي يشهده العالم. ولكن باقترابنا من الواقع أكثر وأكثر يجعلنا منتجين أكثر وخطواتنا موجهة أكثر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي