العيد فرصةٌ للإنسان لتجديد نفسه

إن أغلى وأثمن ما عند الإنسان هو الإيمان بالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ لأن الإيمان هو الأساس الذي يبني عليه الإنسان علاقته مع الله الخالق البارئ المصور القوي العزيز الرحيم العليم, ولهذا لا يوجد مكان أفضل وأسلم وأحفظ لهذا الإيمان من فطرة الإنسان. فإيماننا بالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ استودعه الله أمانة عندنا وترك لنا الخيار والحرية, إما أن نحفظ هذه الأمانة ونكون من المؤمنين الذين تظهر عليهم علامات الإيمان في أخلاقهم ومشاعرهم وسلوكياتهم, وإما أن ننكر هذه الأمانة ونكفر بها ونكون من الكافرين الذين يظهرون الجحود والطغيان والفساد في حياتهم وحركتهم.
وما دام الإنسان قد كرمه الله وجعله أشرف مخلوقاته بجعله مخلوقا مختارا وحرا حتى في علاقته مع الله فهذا يعني أن إيمان الإنسان بربه تزاحمه قوى أخرى, ومهمة الإنسان أن يعيش هذه الحياة وهو على خط الإيمان. ولكن هذا الإنسان وهو يدافع هذه القوى ليحافظ على إيمانه وليبقى على علاقة قوية مع ربه بحاجة إلى محطات زمنية ومكانية وظرفية ليستقبل فيها مزيدا من الفيض الإلهي والرحمة الربانية, فالإنسان في هذه المحطات يغسل روحه وينظف نفسه بهذا المطر الإلهي ليخرج منها وهو أقوى إيمانا وأكثر قربا إلى الله ـــ سبحانه وتعالى. فكما أن بدن الإنسان في حاجة إلى التنظيف المستمر وبهذا التنظيف يستعيد البدن نشاطه ويحافظ على صحته، فإن الروح والنفس تحتاج هي الأخرى إلى تنظيف لتستعيد نشاطها وتسترجع قوة ارتباطها بالله ـــ سبحانه وتعالى.
ومن نعم الله علينا نحن المسلمين تفضله علينا بمحطات كثيرة نستزيد فيها إيمانا وتقربا إلى الله, فهناك محطات زمنية فيها زخات قوية من الرحمة الإلهية مثل يوم الجمعة وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. فالإنسان باعتباره وعاء وجوديا يمر بهذه المحطات الزمنية ليملأ وعاءه الروحي من الرحمة الإلهية بقدر ما يتسع لها هذا الوعاء, ولهذا فعلينا أن نستعد لمثل هذه المحطات الزمنية لنحصل على أكبر قدر من هذا المطر الإلهي. فالإنسان الذي يريد أن يزيد حظه من عطاء الله ورحمته في ليلة القدر عليه أن يستعد لها مبكرا وهذا الاستعداد يتمثل في تنظيف وعائه الروحي والنفسي. فهناك من الناس من يأتي إلى ليلة القدر أو يذهب إلى صلاة الجمعة في المسجد ووعاؤه الروحي والنفسي ممتلئ بالأحجار والصخور وربما بالأوساخ والقاذورات، وبالتالي لا يصيبه من رحمة الله إلا القليل, على غير ذلك الإنسان الذي استقبل ليلة القدر وقد اجتهد في تنظيف وعائه الروحي والنفسي ليخرج من هذه المحطة العبادية وقد حصل على كثير من الرحمة الإلهية التي ستنير له ظلمات نفسه, فروح الإنسان ونفسه تتنور بمقدار ما عندها من رحمة وفيض إلهي, وكلما تنورت هذه الروح والنفس بنور ربها استضاء الإنسان بهذا النور في حياته وكانت حركته في هذه الدنيا على هدى وبصيرة. فالإنسان يتحرك بين الظلمة والنور, فكلما استقبل مزيدا من الرحمة الإلهية كان أكثر نورا وهذا النور يشده ويجذبه أكثر إلى مصدر هذا النور وهو الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وعندما يقلل من استقباله للرحمة الإلهية تزداد ظلمته الداخلية ويبتعد بذلك عن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وبذلك يكون أضعف من أن يقاوم هوى النفس وإغراءات الشيطان. فالشياطين لا تستطيع أن تعيش في المناطق الروحية والنفسية التي تستضيء بنور الله ـــ سبحانه وتعالى.
أما الأعياد ومنها عيد الأضحى المبارك فهو من المحطات الكبرى, ففيه تجتمع قدسية الزمان والمكان، فالإنسان الذي يشهد هذا العيد وهو من الحجاج فإنه يتنقل بين محطات مكانية كلها لها خصوصية في تنزل الرحمة الإلهية, فهل هناك مكان أطهر وأقدس من بيت الله الحرام, فإذا كانت الركعة الواحدة من صلاة الإنسان في الأحوال العادية لها ما لها من القدرة على تنظيف روح الإنسان ونفسه، فإن هذه الركعة في بيت الله الحرام لها قدرة تعادل 100 ألف ركعة وأكثر, فلكثرة ما تنزل من الرحمة الإلهية على هذا المكان الطاهر ولكثرة ما يهطل عليه من الفيض الإلهي، فإن ما تستجلبه الركعة الواحدة في بيت الله الحرام من الرحمة للإنسان هو مقدار عظيم بمقدار عظمة هذا البيت الحرام عند الله ـــ سبحانه وتعالى. وللإنسان المسلم الذي يشهد هذا العيد وهو بعيد عن بيت الله الحرام والمشاعر الطاهرة، منافع عظيمة لأن العيد في حد ذاته هو محطة زمنية مباركة وتنتظره فيه فيوض من الرحمة الإلهية.
فلا شك أن العيد هو من المحطات الزمنية المهمة التي ينتظرها الإنسان ليجدد من إيمانه بالله وفرصة ثمينة ليتعاهد مع نفسه ليزداد قربا من الله ـــ سبحانه وتعالى, ولكننا هل نخرج من هذه المحطة الزمنية الروحية والنفسية بالمقدار نفسه من هذا العطاء الإلهي والرحمة الربانية أم أن كل واحد منا يأخذ بمقدار ما يتسع له إناؤه ووعاؤه الروحي والنفسي؟ فنحن نأتي للعيد ونحن الفقراء لرحمة الله نحمل أوعيتنا النفسية والروحية لنضعها بين يدي الله وربنا الله العادل والرحيم يعطينا ويفيض علينا من رحمته على قدر ما تتسع له أوعيتنا. فمن الطبيعي والمنطقي أن يكون استعدادنا لهذا العيد وغيره من المحطات الزمنية هو بتنظيف وتنقية أوعيتنا الروحية والنفسية لنخرج من هذا العيد، وقد غشيتنا الرحمة الإلهية وأحاط بنا اللطف الإلهي. ولما كانت الروح والنفس هي عالم المعنويات في وجود الإنسان وهي الوعاء الذي يستودع فيه الإنسان قيمه المعنوية ومبادئه الأخلاقية، فإن هذا الإناء والوعاء الروحي والنفسي يضيق ويتسخ بمقدار ما فيه من قيم معنوية هابطة ومنحطة ويتسع ويكون أكثر رحابة وأكثر سعة عندما يمتلئ بقيم معنوية راقية وأخلاق سامية. فالاستعداد للعيد يتم بتطهير أرواحنا ونفوسنا من كل ما يدنسها ويضيقها من قيم لا تنسجم وفطرتنا الإنسانية المستقيمة والمحبة للخير.
ولعل الكراهية هي من أكثر القيم المعنوية التي تضيق بها أرواحنا ونفوسنا والمحبة هي أكثر ما تتسع به من قيم, فالاستعداد للعيد هو بتنقية نفوسنا من الكراهية وحثها على حب الآخرين والترفع عن كل الخلافات والاختلافات التي تشيع أجواء قد تتسرب إليها الكراهية بين النفوس. فنجد أن التعاليم الدينية تحثنا بقوة في العيد على التزاور والمبادرة بصلة الأرحام وتبادل التهاني والتبريكات والاهتمام بمظاهر التعاون والإخاء بين الناس عموما. نعم هناك كثير مما يختلف عليه الناس, فالناس لهم اجتهاداتهم المتنوعة وآراؤهم المختلفة وهذا حق من حقوقهم الإنسانية وهو أيضا يعبر عن طبيعة الحياة وحقيقتها، ولكن من الخطأ أن نسمح لمثل هذه الاختلافات أن تثير الكراهية بيننا. فالنفس المسامحة والأكثر قبولا للآخر هي أكثرها سعة وأكثرها استعدادا لتقبل الرحمة الإلهية في هذا اليوم المبارك, أما عندما نترك الكراهية تستولي على نفوسنا وتستعمر أرواحنا فلن يكون نصيبنا من هذا العيد إلا القليل والقليل جدا وفعلا نكون الخاسرين.
فالعيد هو محطة ليراجع الإنسان فيها نفسه, فالسعيد في هذا العيد هو من خرج منه وقد نظف نفسه وروحه من الكراهية والحقد على الآخرين وكان بذلك مستعدا لاستقبال ما يتنزل في هذا اليوم من الرحمة الإلهية والمطر الإلهي, والشقي في هذا العيد من اختار أن يبقي نفسه على ما عليها من بغض وكراهية وحقد للآخرين وبذلك يحرم نفسه بركات هذا اليوم المبارك, جعلنا الله وإياكم من السعداء والفائزين في هذا العيد وكل عيد ـــ إن شاء الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي