ضرورة رفع كفاءة إنفاقنا الحكومي
تحدثت الأسبوع الماضي عن أن النمو الكبير المبالغ فيه في الإنفاق الحكومي في المملكة تسبب في ضغوط تضخمية كبيرة محليا على الرغم من حالة الاستقرار النسبية في مستويات الأسعار عالميا، ما يجعل من غير الممكن أن يسهم رفع قيمة الريال في الحد من التضخم باعتبار أن أي تخفيض في تكلفة الاستيراد ستعني مجرد ارتفاع في هوامش ربح المستوردين والموزعين ولن يمرر إطلاقاً إلى المستهلكين.
إلا أن هذا التأثير ورغم أهميته يعتبر هامشياً مقارنة بالتأثير السلبي الأكثر خطورة لهذا النمو الكبير المستمر لعدة سنوات في الإنفاق الحكومي. فإحدى أهم المشكلات التي تعانيها معظم الدول النامية المصدرة للنفط هو ما يترتب على التذبذب العنيف في إنفاقها العام من تدن في مستوى أداء اقتصاداتها رغم كل ما تتمتع به من أوضاع مالية جيدة تؤهلها لتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية جدا، بسبب عدم اتباعها سياسات مالية تتعامل مع إيرادات النفط بحكمة ووفق منظور بعيد المدى يحمي اقتصاداتها من التأثير السلبي الهائل الناتج عن تذبذب مستويات إنفاقها العام بحدة تذبذب إيراداتها النفطية نفسه. ففي معظم البلدان النامية المصدرة للنفط نجد أن الإنفاق العام يرتفع مع ارتفاع إيرادات النفط بشكل هائل، من ثم يرتفع معه بالضرورة الهدر وسوء استخدام الموارد، وعندما تنخفض الأسعار وتتراجع إيراداتها النفطية تبادر هذه البلدان إلى إجراء خفض حاد في إنفاقها العام وتتخذ إجراءات تقشفية صارمة تفاقم من حدة تأثر اقتصاداتها بتراجع أسعار النفط، ما يعوق تحقيقها معدلات نمو اقتصادي عالية ويجعل اقتصاداتها ضحية للتضخم الركودي.
هذا الوضع العجيب الذي تضع البلدان المصدرة للنفط نفسها فيه جعل بعض الباحثين يعتبر هذه الميزة التي تتمتع بها هذه الدول نقمة عليها ـــ ظهر معه في الأدبيات الاقتصادية مصطلح نقمة الموارد، الذي يقصد به أن الدول الغنية بالموارد الطبيعية كالنفط مثلا تعاني في أحيان كثيرة تدني معدلات نموها الاقتصادي وتفاقم مشكلات الفقر والبطالة وعدم عدالة توزيع الدخل مقارنة بالدول غير الغنية بالموارد الطبيعية. وقد توصلت الدراسات العديدة إلى أن من أهم الأسباب المؤدية إلى هذه الظاهرة العجيبة هو التذبذب الحاد في مستويات الإنفاق العام بسبب ارتباطه بمستوى إيرادات هذه الدول من النفط، الذي يجعل لارتفاع إيرادات هذه البلدان من النفط تأثيرا إيجابيا محدودا على معدلات النمو الاقتصادي، فجزء كبير من الإنفاق الحكومي الهائل الذي يحدث مع تحسن أوضاعها المالية لا يستفاد منه بصورة عالية الكفاءة ويعاني الهدر الشديد، بينما الحد من الإنفاق الذي سيكون ضروريا عند تراجع الإيرادات يكون له تأثير سلبي قوي على النشاط الاقتصادي. كما أن الارتفاع السريع في إيراداتها النفطية يعطي شعوراً زائفاً بالأمن المالي يشجع هذه الدول على الاستثمار في مشروعات غير مجدية وفي أحيان كثيرة غير ضرورية وفي الغالب لا تعدو كونها جزءا من برامج دولة الرفاهية الذي يتبناها كثير من هذه الدول أكثر من كونها مشروعات استثمارية حقيقية قادرة على البقاء دون دعم الدولة أو في حال نضوب المورد الطبيعي، كما يكون هناك توسع في التوظيف والاستهلاك الحكوميين وفي معونات الضمان الاجتماعي. ومع تراجع الإيرادات الحكومية عند انخفاض أسعار الموارد الأولية تصبح الحكومة غير قادرة على المحافظة على تلك المستويات العالية من الإنفاق الحكومي، ما يضطرها إلى إجراء خفض حاد سريع واتباع إجراءات تقشفية تزيد من حدة انكماش الاقتصاد، ما يجعل هذه البلدان عرضة لتذبذبات حادة جدا في نشاطها الاقتصادي. ويجعل من المهم جدا عزل الاقتصاد في الدول المعتمدة على صادراتها من الموارد الأولية عن التذبذبات في أسعار هذه الموارد في الأسواق العالمية من خلال فصل الربط بين السياسة المالية وأسعار النفط، بحيث ينمو الإنفاق الحكومي بمعدلات مستقرة لا تتأثر بالتذبذبات التي تحدث في أسعار النفط مهما كانت حدتها، فدون ذلك فإن التذبذبات العنيفة في أسعار النفط ستنتقل إلى الاقتصاد مع ما يتبع ذلك من تدن في فاعلية الإنفاق الحكومي وزيادة في معدلات الهدر في هذا الإنفاق في أوقات الطفرة، وما يترتب عليه من انكماش اقتصادي حاد في فترات تراجع الإيرادات النفطية. ما يعني أن صانعي السياسة المالية يجب أن يتعاملوا مع الإيرادات النفطية وفق منظور طويل الأمد، وهو ما لا تقوم به معظم الدول المصدرة للنفط، حيث يعتمد الإنفاق الحكومي في الميزانية السنوية على الإيرادات المتوقعة للعام نفسه في معظم الأحيان، أما عندما يكون هناك منظور طويل الأجل يكون هناك سقف لزيادة الإنفاق مهما بلغت نسبة الزيادة في الإيرادات، ويصبح الإنفاق متماشياً مع الإيرادات المتوقعة على مدى أطول ما يسمح ببناء فوائض مالية ويجنب البلاد الآثار السلبية الهائلة التي عادة ما تنتج عن أي نمو سريع مستمر في معدلات الإنفاق الحكومي.
من ثم فقد حان الوقت لمراجعة سياسات الإنفاق العام بالمملكة ليس فقط للحد من هذا الارتفاع الكبير غير المبرر في معدلات التضخم وإنما أيضا لإنقاذ اقتصادنا من براثن نقمة الموارد التي لا شك أن اقتصادنا أحد ضحاياها، يدل عليه تفاقم مشكلات اقتصادية نعانيها، كالفقر والبطالة وعدم كفاءة توزيع الدخل، رغم كل ما ننعم به من أوضاع مالية جيدة غير مسبوقة، ما يؤكد حاجتنا الماسة إلى إجراء مراجعة شاملة وجوهرية لسياسات اقتصادية تسببت في كل ذلك.