القضاء وأزمة الحقوق

كثيرة هي المؤتمرات والمحافل التي حضرتها أو شاركت فيها، وكثير منها ما كان يدور حول فرص الاستثمار في مختلف القطاعات في المملكة. كنت دوما ألحظ اهتماما كبيرا من حضور تلك المحافل من ممثلي الشركات الأجنبية والعالمية بفرص الاستثمار في المملكة، ولكني كنت ألحظ أيضا أن هذا الاهتمام لا يتعدى في غالبه حدود تلك المحافل، دون أن ينعكس في شكل تحركات حقيقية لتلك الشركات الأجنبية للانخراط في فرص الاستثمار الواعدة في المملكة، وأخص بالحديث هنا الشركات ذات العلاقة بالتنمية العمرانية والقطاع العقاري. بادرت بسؤال عدد من المختصين في تلك الشركات، ما العقبة الكبرى في سبيل الإقدام على دخول سوق المملكة؟ تعددت الإجابات، ولكن الإجابة التي اتفق عليها الجميع هي ''القضاء''. وحول القضاء وأزمة الحقوق أكتب هذا المقال الذي أرجو أن يستقبله أهل القضاء والقائمون عليه بصدر رحب.
القضاء في بلادنا يمكن تصنيف اختصاصه في ثلاثة مجالات رئيسية، القضاء الجنائي، والقضاء التجاري، والقضاء الإداري. وهناك أيضا مجالات أخرى لم تجد بعد حقها من النضج والهيكلة، بما فيها القضاء المروري والأسري وغير ذلك، وإن كانت وجدت حقها من الدراسة ضمن برنامج تطوير القضاء الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين قبل نحو أربع سنوات، وخصص له ميزانية ضخمة قدرها سبعة مليارات ريال، وما زال المجتمع السعودي يتطلع إلى تلمس آثاره ونتائجه. ولأن حديثي هنا يتعلق في مجمله بالآثار التي يوقعها واقع القضاء على عملية التنمية وجوانبها الاستثمارية، فإنني سأركز حديثي هنا على القضاءين التجاري والإداري، في سعي إلى تحليل مشكلات هذين القطاعين، وأثر هذه المشكلات في واقع الاستثمار في المملكة.
المعلوم أن القضاء الإداري يختص بالتعاطي مع القضايا التي تكون إحدى مؤسسات الدولة طرفا فيها، فيما يختص القضاء التجاري بالقضايا ذات الطابع التجاري، وتكون المؤسسات التجارية طرفا فيها. وكلا القطاعين يؤثر في مناخ الاستثمار في المملكة، كون الأول يعمل على حل المشكلات التي تتعلق بالممارسات الحكومية تجاه العقود والتشريعات التي توجه عملية التنمية، والثاني يعمل على حل المشكلات والخلافات التي تقع بين الشركات التجارية. وقضية الحقوق ربما تكون المحك الأهم في كلا القطاعين، إذ إن معالجة مشاكل الحقوق الناشئة عن الخلافات هي ما يقلق جهات الاستثمار، ويؤسس لمناخ جاذب أو طارد استنادا إلى سرعة وسلاسة وصرامة التعاطي مع هذه الخلافات. والمشاهد أن قضية الحقوق في واقعها أصبحت أزمة حقيقية في ظل واقع تعامل القضاء مع مثل هذه القضايا، والتأخير في حسم القضايا الحقوقية التي تستغرق سنوات طويلة أصبح مشهدا مألوفا. ليس هذا فقط، بل إن غياب مفهوم التعويض والعقوبة في القضاء الحقوقي يمثل مشكلة حقيقية، إذ إنه أدى إلى تكريس التساهل في مصادرة وأكل الحقوق، فما الذي يردع جهة ما من تأخير صرف مستحقات جهة تعاقد معها أو حتى مصادرتها إن كان سيدفع لها المبلغ ذاته بعد سنوات عديدة، هذا إن كسب المدعي قضيته ضد تلك الجهة. إن مشكلة ضياع الحقوق غدت ظاهرة ملحوظة في مجتمع الأعمال، وخلقت مناخا من فقدان الثقة حتى في ظل عقود محكمة الصياغة وتشريعات تسعى إلى حفظ الحقوق. والمشكلة الكبرى هي في ضعف آليات التنفيذ للأحكام القضائية، خاصة إن كان الخصم هاضم الحقوق شخصا ذا نفوذ، أو صاحب سطوة ومكانة في المجتمع. وفي المحصلة ، فإن هذا الواقع الذي لا يتعامل مع قضية الحقوق بما تستحقه من اهتمام لا يمكن أن يؤسس مناخا جاذبا للاستثمار، والمستثمر المحلي يعاني الأمرين من مثل هذه المشاكل، فكيف لنا أن نتطلع إلى استقطاب المستثمرين الأجانب في مثل هذا المناخ المليء بفقدان الثقة بعدالة القضاء؟
التأخير في حسم القضايا هو أحد الجوانب الكبرى في المشكلة، وهذه الظاهرة يبررها الجهاز القضائي بكثرة القضايا وقلة عدد القضاة، الأمر الذي يحملهم الكثير من الأعباء في النظر في ذلك العدد الكبير من القضايا، ويطيل بالتالي أمد النظر والبت فيها. وبالرغم من أن هذا المبرر هو مبرر حقيقي، إلا أنه لا يمثل في نظري لب المشكلة. فلب المشكلة يتعلق من ناحية بكثرة القضايا التي تنظر فيها المحاكم، وهي في معظمها قضايا مفتعلة يمكن البت في كثير منها في محاكم ابتدائية يمكن أن تشكل أحد مستويات النظر في القضايا. وهذا المستوى يغيب عن آليات التقاضي في المملكة، فيما نشهده في الممارسات القضائية في الدول المتقدمة. والجانب الآخر من جوانب مبررات التأخير هو في ظاهرة المماطلة من الخصوم في حضور الجلسات، فالخصم المدعى عليه يتم استدعاؤه لجلسات التقاضي ثلاث مرات تفصل بين المرة والمرة أشهر عديدة من مواعيد الجلسات، وغيابه غير المبرر لا يوقع عليه أي مساءلة أو لوم. والمشكلة أن المدعي هو من يتم تكليفه بإيصال بلاغ الحضور إلى خصمه، ويعاني في كثير من الأحيان تجاهل ذلك الخصم ومماطلته في تسلم طلب الحضور. والممارسات التي يلجأ إليها الخصوم للمماطلة في التقاضي تثير الاشمئزاز دون أن ترف عيون القضاة حيالها، فمرة يحضر الوكيل دون إحضار أوراقه الثبوتية فيتم تأجيل الجلسة إلى موعد آخر، ومرة يحضر وكيل جديد يدعي عدم معرفته بالقضية ويطلب مهلة لدراستها، ومرة يعرض مستندات ووثائق ليس لها أية علاقة بموضوع القضية ليضيع وقت القاضي ويطيل أمد القضية، وغير ذلك الكثير من الممارسات التي تتطلب وقفات حازمة من القضاة. تصبح المشكلة أكبر عندما يضطر صاحب الحق إلى رفع قضيته في مدينة أخرى غير التي يقيم فيها، إذ يضطر إلى تكبد عناء السفر إلى مدينة الخصم لمتابعة قضيته، ويعاني الأمرين من ممارسات المماطلة التي أشرت إليها، هذا إن لم يفاجأ بغياب القاضي في إجازة لم يتكبد أحد في المحكمة عناء الاتصال بالمدعي المسكين لإبلاغه عنها لكيلا يتكبد عناء السفر دون جدوى. أحد الجوانب الأخرى في ظاهرة التأخير هو وضوح معالم الاختصاص في القضايا بين دوائر التقاضي المتخصصة، فالكثير من القضايا تمر بدورة طويلة من النظر يحكم فيها القاضي في النهاية بعدم اختصاص دائرته بالنظر فيها. والأدهى أن المدعي المسكين صاحب الحق يقوم بعدها برفع قضيته في دائرة أخرى، وتمر دورة أخرى يحكم القاضي الآخر في نهايتها بعدم الاختصاص أيضا، فيضطر المدعي إلى اللجوء إلى لجنة تنازع الاختصاص في مجلس القضاء الأعلى ليبت في اختصاص الدائرة المعنية، لتبدأ دورة التقاضي والاستئناف مرة ثالثة. هذا التكرار في النظر في القضايا دون وضوح الاختصاص يوقع الكثير من الهدر في الوقت والجهد، ويسبب الكثير من التأخير في حسم القضايا، ويؤدي في النتيجة إلى تفاقم أزمة ضياع الحقوق، وهو ما يؤكد الحاجة إلى تبني مفهوم المحاكم الابتدائية التي يمكن لها أن تبت في مسألة الاختصاص في مرحلة مبكرة من عمر القضية. وتحت ناظري الآن قضية لأحد المقاولين يطالب فيها أحد المطورين العقاريين بحقوقه عن مشروع أنجزه له منذ خمس سنوات، وقد مر على مطالبته في أروقة القضاء بين ديوان المظالم والمحكمة العامة أربع سنوات لم يبت فيها حتى الآن في اختصاص أيهما في النظر في هذه القضية. والمشكلة أن صاحب الحق المسكين لن يحصل في النهاية بعد كل تلك السنوات سوى على حقه الذي فقده، هذا إن قيض الله له قاضيا عادلا يحكم له، في الوقت الذي يقوم فيه ذلك صاحب المشروع بالتمتع بتوظيف تلك المبالغ طيلة تلك السنين، دون أن ينظر القضاء في تعويض ذلك المدعي عن انتظاره المطول في تحصيل حقه الضائع، أو حتى معاقبة ذلك الخصم على تلك الفعلة. إن مصادرة الحقوق يجب أن ينظر فيها القضاء على أنها قضية جنائية تستوجب التعزير والتعويض، لتأسيس حاجز رادع حيال المبادرة بهضم الحقوق.
يبدو أنني أطلت الحديث. سأتوقف هنا إذن، وسأكمل حديثي في المقال القادم - بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي